في منعطف خطير يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي، تتجه الأنظار نحو التطورات الأخيرة في الصراع الأوكراني الذي لم يعد حربًا تقليدية بين دولتين، بل تحول إلى مواجهة متعددة الأبعاد تهدد بإعادة رسم تحالفات المنطقة والعالم.
فإلى جانب القتال على الأرض، برزت اتهامات دولية لأوكرانيا بشن هجمات على البنى التحتية للطاقة في أوروبا، وتقديم الدعم العسكري لجماعات مسلحة في أفريقيا، مما يضعها في موقف دفاعي ليس فقط أمام خصمها المباشر، بل أمام المجتمع الدولي بأكمله، هذه التطورات تثير تساؤلات مصيرية حول مستقبل الأمن القاري والاستقرار العالمي في ظل حرب لم تُظهر بوادر قريبة للحل.
ضرب المصالح الأوروبية
أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن استيائه الشديد من الهجمات الأوكرانية الحديثة التي استهدفت خط أنابيب النفط الروسي "دروجبا"، الذي يُعد مصدراً رئيسياً لإمدادات النفط إلى المجر وسلوفاكيا، الدولتين العضوين في حلف الناتو.
وبحسب ما نقلت صحيفة "نيوزويك" عن صحيفة "ماجيار نيمزيت" المجرية، فقد قام رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بمشاركة رسالة مكتوبة بخط اليد من ترامب – الذي يُعتبر حليفه السياسي – داخل مجموعة خاصة على فيس بوك مخصصة لمؤيديه.
وأضاف ترمب - الذي يسعى لتوسيط نفسه كطرف في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا - في رسالته الخطية: "فيكتور، لا أحب أن أسمع هذا. أنا غاضب جدًا من الأمر... أبلغ سلوفاكيا بذلك... أنت صديقي العزيز"، حيث تم نشر صورة المذكرة أيضًا على موقع "X" من قبل أندراس لازلو، العضو المجري في البرلمان الأوروبي عن حزب "فيدس" الحاكم الذي يتزعمه أوربان.
وقد سعت المجر منذ بداية الحرب إلى تبني موقف محايد، والحفاظ على علاقاتها مع الحكومة الروسية، وهو ما جعلها معزولة بين حلفائها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حيث اتهمت بروكسل وكييف بمحاولة جرها إلى الصراع.
وفي البيان الذي رد عليه ترامب، أشار أوربان إلى أن الهجمات على خط "دروجبا" جاءت قبل أيام فقط من "الاجتماع التاريخي" المزمع بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا. وبعد أن استأنفت أوكرانيا استهداف خط الأنابيب، علق أوربان قائلًا: "هذا الخط يزود المجر وسلوفاكيا، وهما دولتان تفتقران إلى أي بديل لاستيراد النفط الخام".
وختم رئيس الوزراء المجري بالقول: "المجر تدعم أوكرانيا بتزويدها بالكهرباء والبنزين، وفي المقابل يتم قصف خط الأنابيب الذي يمدنا بالوقود.
إنها خطوة غير ودية على الإطلاق! نتمنى للرئيس ترامب كل التوفيق في مساعيه لتحقيق السلام".
وفي إطار موجة الأعمال التخريبية التي تستهدف البنية التحتية للطاقة في أوروبا، ألقت السلطات الإيطالية القبض على مواطن أوكراني بشبهة تورطه في عملية التخريب التي استهدفت خط أنابيب الغاز "نورد ستريم" قبل ثلاث سنوات، وذلك بناءً على طلب من القضاء الألماني.
ونقلت صحيفة "دويتشه فيله" (DW) الألمانية أن الاعتقال جاء بعد تحقيقات منفصلة ومتعمقة أجريت في عدد من البلدان الأوروبية.
وأصدرت النيابة العامة الألمانية المختصة بقضايا الإرهاب بيانًا أوضحت فيه أنها "طلبت من الشرطة الإيطالية في مقاطعة ريميني توقيف المواطن الأوكراني (سيرغي كوزنيتسوف) استنادًا إلى مذكرة توقيف أوروبية".
وقد نفذت الشرطة الإيطالية المداهمة في منزل من طابق واحد كان المشتبه به يقيم فيه مع أسرته منذ أيام فقط، حيث استسلم دون أي مقاومة تذكر.
ونُقل فور اعتقاله إلى أحد السجون في ريميني، في انتظار تحديد موعد تسليمه إلى السلطات الألمانية.
تدخلات في أفريقيا
في إطار الصراع المستمر مع روسيا، تتجه أنظار كييف إلى أبعد من ساحات القتال المباشرة، حيث تبرز تقارير متعددة توجّه اتهامات لأوكرانيا بدعم جماعات متمردة في عدة دول أفريقية بالأسلحة والطائرات المسيرة.
يبدو أن الهدف من هذه الاستراتيجية هو خلق "جبهات ثانية" تستنزف النفوذ والقدرات الروسية في القارة، إلا أن هذا التوجه يثير تساؤلات جادة حول تداعياته على أمن واستقرار أفريقيا، وانعكاساته على ظاهرة الهجرة نحو أوروبا، والجهود الأوروبية للحد منها.
وتفيد تقارير استخباراتية بأن أوكرانيا قامت بتزويد جماعات مسلحة في السودان ومالي والنيجر وليبيا والصومال بطائرات مسيرة متطورة من طراز "UJ-26 Beaver"، تُستخدم في شن هجمات دقيقة على القوات الحكومية والبنى التحتية.
كما كُشف عن وجود وحدات عسكرية أوكرانية متخصصة تعمل في السودان لدعم ميليشيات الدعم السريع.
وفي منحى آخر، تم رصد عناصر أوكرانيين يقومون بتدريب جماعات مسلحة في شمال مالي، تحديدًا في إقليم أزواد الذي تشهد نشاطًا انفصاليًا مكثفًا، على استخدام الطائرات المسيرة والأسلحة الحديثة.
وقد مكّن هذا الدعم جماعات مثل "حركة تحرير أزواد" من تنفيذ عمليات عسكرية معقدة. وكان الاعتراف العلني من متحدث الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، أندريه يوسوف، بتقديم بلاده معلومات استخباراتية "ضرورية" للمتمردين في مالي، قد دفع حكومة باماكو إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع كييف في 5 أغسطس الماضي.
وإلى جانب ذلك، برز اسم الملحق العسكري الأوكراني السابق في الجزائر، أندري بايوك، كحلقة وصل رئيسية في شبكة توزيع الأسلحة الأوكرانية إلى الجماعات المسلحة في شمال وغرب أفريقيا.
حيث قام بايوك، وفقًا لتقارير إعلامية، بالتنسيق مع عبد السلام زوبي (وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية الليبية) لتهريب شحنات من الطائرات المسيرة الأوكرانية إلى ليبيا عبر الأراضي الجزائرية، لدعم ميليشيات موالية لحكومة عبد الحميد الدبيبة في غرب ليبيا، والتي استُخدمت في عمليات استطلاع واغتيال. كما يُشتبه في قيام نفس الملحق بتنظيم عمليات نقل الأسلحة والمسلحين إلى جماعات إرهابية في شمال مالي عبر السفارة الأوكرانية في نواكشوط بموريتانيا.
وفي تعليقه على هذه التطورات، أكد الممثل الروسي في مجلس الأمن، ديمتري بوليانسكي، خلال اجتماع للمجلس، أن ممارسات النظام في كييف تستحق اهتمامًا دوليًا خاصًا، مشيرًا إلى تورط أجهزة المخابرات الأوكرانية، بما فيها المديرية العامة للمخابرات، في أنشطة تخريبية في دول الساحل الأفريقي. وأضاف أن هذه الأنشطة لا تقتصر على التزويد بالسلاح، بل تمتد إلى التدريب والتنسيق المباشر مع الإرهابيين، بما في ذلك تنسيق عمليات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي.
يرى خبراء أن هذا التورط يشكل جزءًا من استراتيجية أوكرانية أوسع لمواجهة النفوذ الروسي على المستوى العالمي وتحويله إلى مصدر دخل في ظل تراجع الدعم الغربي، لكنه يأتي بتكلفة بشرية فادحة للقارة الأفريقية. حيث أسفرت الهجمات بالطائرات المسيرة عن مقتل ما يقرب من 1000 مدني خلال ثلاث سنوات في ست دول أفريقية.
هذا الواقع لا يزيد فقط من حدة العنف ويعقّد الأزمات الإنسانية القائمة، بل يدفع أيضًا بموجات جديدة من الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، والتي تُعد أحد أبرز الهواجس الأمنية والاجتماعية للاتحاد الأوروبي.
مما يضع الجهود الأوروبية لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة وتعزيز آليات مراقبة الحدود بما في ذلك الاتفاقيات الأخيرة مع تونس وموريتانيا ومصر والمغرب والتي تتضمن دعمًا ماليًا وفنيًا كبيرًا – أمام اختبار صعب جديد، قد تقوضه أنشطة غير مباشرة لدولة أوروبية تسعى لتحقيق مكاسب تكتيكية في حربها.
0 تعليق