كتبت بديعة زيدان:
"في العام 1980، شاهد خ.حسين، الذي كان سائقاً عادياً لشاحنة لوري، تنقل البضائع بين الريف والعاصمة وعددٍ من المدن، في عشرينيات العمر، وهو غير متزوج، امرأة جميلة، تقف أمام دكّان في سوق البلدة التي ينحدر منها، تابعها أولاً بنظراته، ثم بساقيه بعد أن ترك شاحنته في السوق، عرف بيتها وأنه جيء بها من العاصمة حديثاً، بعد زواجها بأحد أبناء البلدة.. تعطّل عقله تماماً، وتحول في لحظة إلى مجنون عاشق، جاء بشاحنته أمام بيت المرأة، ورقد تحتها منقطعاً عن الدنيا كلّها".
ليس بالضرورة أن حكاية "خ. حسين" هذا، الذي هو ذاته "سعيد الورّاق"، و"تيس سليمان"، و"قائد أركان المهرج"، و"المهراجا"، ويحمل لقب "كلب الحر"، ويهيم عشقاً بـ"الرمّانة العوض"، المتزوجة من "هارون مسلّم" مهرج البلدة، هي ما أراد سرده الروائي السوداني أمير تاج السر في أحدث أعماله "عورة في الجوار"، الصادرة عن "نوفل" دمغة الناشر "هاشيت أنطوان" في العاصمة اللبنانية بيروت.
ففي الرواية الكثير مما يختفي أو تم إخفاؤه عمداً وراء السرد، بحيث تبدو وكأنها تحاكي تحوّلات الحكم في السودان، وما رافقها من استغلال للدين، كما في حقبة حكم البشير الذي جاء إلى الحكم في انقلاب عسكري العام 1989 مدعوماً من الجبهة القومية الإسلامية برئاسة حسن الترابي، مطيحاً بحكومة الأحزاب الديمقراطية وكان يرأسها الصادق المهدي، حيث "اهتزت البلاد بغتة، وتسلم مقاليد الحكم مواطن بدماءٍ مرّة، ولحمِ خشن، وابتسامة بالكاد تجرح بوصة من فمه".
وتُوج الرئيس الجديد "في سلسلة من الرؤساء سلسلتْها عادات البلاد وتقاليدها وشوارعها وإذاعتها وصحفها ومجلاتها، وحناجر أبنائها، والساعات المبكرة من صباحاتها".
وكان من سبقه، وهو على الأغلب ليس الصادق المهدي، بل قد يكون جعفر النميري رئيس "جمهورية السودان الديمقراطية" في الفترة ما بين 1969 و1985، أصدر بأمر رئاسي ما عُرف بـ"لائحة الشوارع"، واشتملت على أربعة عشر بنداً، سمحت لـ"شوارعيّ مثل كلب الحر أن يعشق رمّان البلاد كلها"، وتم إجازتها في "برلمان سليمان" دون إبداء أي اعتراض، ليستفيد سائقو عربات الأجرة، ممن كانوا "يحتلبون جيوب الزبائن من دون أن يسألهم أحد"، وكذلك الحال مع "لصوص المساكن والمال العام، فسرقوا واختلسوا واحتموا ببنود اللائحة"، واستفادت من بنودها "بائعات الهوى، وصانعات عرق المزاج، وروّاد سينما أفلام الكابوي وبوليوود، ومعارضو الأنظمة الشمولية، ومهاجرو الأرياف، والنازحون، وطالبو اللجوء السياسي، وربّات البيوت وأربابها، ومتمردّو حروب الميليشيات المسلحة، في الجنوب والغرب"، فكانت "أربعة عشر بنداً، حرّكت عشب الأرض، وسيّرت تظاهرات التأييد، وبرقيات التهنئة، وحقنت دماء السلطة بإكسير للشباب أخّر من انهيارها أعواماً طويلة".
ومع تسلّم الرئيس الجديد مقاليد الحكم، تسلم في اليوم نفسه غضباً موقعاً من "الرمّانة العوض"، وزوجها، وأربعة من عيالها القادرين على توقيع لائحة الغضب، وجارها، و"الحسن بن زينب"، وواحدٍ آخر لم يذكر، تطرقت فيه إلى "انتصار البواسل، ودحرهم لمعاقل الفساد، والرجعية، والتآمر، لنهب مقدرات الأمة العظيمة، التي أنجبت الكثير من العظماء"، تطالبه بتخليص الشعب من "كلب البحر"، و"تيس سليمان"، و"قائد أركان الهمج"، و"المهراجا"، و"سعيد الوراق".
ليس بالضرورة أن يكون ما سبق تأويله من سردية "عورة في الجوار" أو جزء منها دقيقاً، فقد يكون الرئيس الجديد هو البرهان، الذي انقلب على ثورة كانت تسعى لاستعادة حكم ديمقراطي بعد إسقاط حكم البشير، أو قد يكون القائد العسكري دقلو، الذي كان حليفه، وباتا يتناحران وينحران السودان منذ أعوام، أو كلاهما ممتزجان في تكوين شخص الحاكم الجديد، الذي "سلّم لسانه لكوكبة من منسقي العهود كلها، نسقوه كزهرة، وسلخوا عن لحمه كورسات التمرّد، ودروشة المخيّمات، وغناء الشوارع، وأحلام الطبقات الفقيرة، وأعادوه إليه أرستقراطياً، بروتوكولياً، حالماً، جذّاباً.. سلّم شعره للمقصات الذهبية، وقلبه لمضخات أوكسجين المؤتمرات، ووجهه لخبيرات تجميل إنساني، زيّنه بكريم الأبوة الرطب، المطلوب بشدة في تلك المرحلة".
وليس بالضرورة ذلك أيضاً، فقد يكون القصد بعيداً عمّا سبق، لجهة حاكم جنوب السودان ما بعد الانفصال أو إبّانه، كما قد لا تكون "الرمّانة العوض"، كما أردتُها، "كنداكة الثورة السودانية"، آلاء صالح، وكانت طالبة جامعية تدرس الهندسة، وقت تصويرها في العام 2019، في التظاهرات الحاشدة المطالبة بإسقاط حكم البشير، حتى باتت أيقونة للثورة السودانية، أطلق عليه أيضاً لقب "المرأة في الثوب الأبيض"، و"سيدة الحرية السودانية"، علماً أن "كنداكة" لقب كان يُطلق على الملكات الحاكمات في مملكة "كوش" القديمة، التي كانت تقع في منطقة السودان الحالية.
وليس بالضرورة كذلك أن تكون "الرمّانة" هي "كنداكة" القرن الحادي والعشرين السوداني، بل لعلها التقت ككنداكة عتيقة، خارج دفتي "عورة في الجوار"، أو في منطقة ما وراء السرد، بأحد ملوك الجعليين في القرن التاسع عشر، في افتراض مخيالي وفنتازي لا يوازي طغيان المخيال والفنتازيا في رواية أمير تاج السر الأحدث.
وتكاد تجتاح الفنتازيا والسخرية السوداء والبيضاء والملونة، كل صفحة من "عورة في الجوار"، ولعلها تتجلى في بنود "لائحة الشوارع"، كأن "يسمح بالعشق في كل حالاته، ابتداءً من النظرة وحتى الموعد واللقاء، ويمسح بإلقاء العبارات الغزلية نثراً وشِعراً، ما دامت تلقى في الطريق، وما دامت تخلو من الألفاظ الخادشة"، وكأن "يُسمح لمتعطشي السلطة وهواة الحكم من جنود، وجنود صف، ومدنيّين، وغيرهم، القيام بانقلابات صورية كاملة، بما فيها خطابات الوعود الروتينية، بحيث لا تتعدى الشوارع، أو تنتقل إلى أي إذاعة، أو تلفزيون، أو صحيفة"، فيما "يُمنع منعاً باتاً أن تحتوي سلال المهملات للأحياء الراقية التي تُلقى في الشوارع على مواد تموينية، أو استهلاكية، أو ملابس ليس فيها رُقع، أو ما يدل على قدمها واستهلاكها"، بينما "يُسمح لتلاميذ المدارس المشاغبين والأغبياء بساعات زوغان من المدرسة يقضونها في الشوارع، ليتعلموا لغة الطريق المطلوبة لأمثالهم كسفهاء مُستقبليّين، يحافظون على ميزانيّ الخير والشر الاجتماعي"، وغيرها، وهو ما ينسحب على "عظماء الأمة" في "لائحة الغضب"، من أمثال: حورية جوجو، والغجرية، والمغنية، و"داود أقرع" دارس العلم ومدرّسه، والشيخ الفقير الذي أدى فريضة الحج طائراً بجناحين من نور، وجاه الله العجلاتي مُخترع لعبة الكراسي المكسورة، وطيّوبة لاعب كرة القدم، والبروفيسور ضوين نزيل الغرفة 18 في مستشفى الأمراض العقلية، والرحالة المعقد "حاكم عذابو"، والشاعر "دقّاق"، والجندي المجهول، و"عم أحمد" بائع السمك على شاطئ النيل في منطقة "الريفيرا".
وكون الزمن يَستنسخ نفسه في السودان، كما الشخوص، بينما تتغيّر ملامح الأمكنة التي قد تبدّل ثياب أسمائها أيضاً، فإن الرواية ذات النَفَس التهكمي، تصلح لأن تكون وثيقة سردية حول التحولات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الثقافية، على مدار عقود من تاريخ السودان، وإن كان ليس بالضرورة أنها تصلح لأن تكون كذلك، فلا شيء يقيني في السودان كما في تكوينات وتهويمات الرواية التي تكسوها الضبابية، كما تكسو تاريخ البلاد والعباد وحاضرها، وليس بالضرورة مستقبلها.
0 تعليق