حين يتحول قتل الصحفيين إلى عرض هوليودي - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قبل أسبوع واحد فقط من انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك، طالبت منظمة "مراسلون بلا حدود" (RSF) بالتعاون مع حركة "آفاز" المجتمع الدولي بالتحرك لوقف جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحفيين الفلسطينيين.

وقد دعت هذه الحملة العالمية إلى تنفيذ يوم عمل خاص تشارك فيه وسائل الإعلام حول العالم، من خلال إغلاق الصفحات الأولى في الصحف المطبوعة، وإيقاف الشعارات والبنرات في المواقع الإخبارية الإلكترونية، ووقف الرسائل الصوتية أو المرئية التي تبثها محطات الإذاعة والتلفزيون.

وقد أعربت مئات المؤسسات الإعلامية في أكثر من خمسين دولة عن تضامنها وموافقتها على المشاركة في هذا التحرك، وتم إدراج أسماء الوسائل المشاركة، رغم أن عددا قليلا منها ينتمي للولايات المتحدة.

تأتي هذه الدعوة العاجلة في ظل أسوأ مذبحة للصحفيين تم توثيقها على الإطلاق. فقد بلغ عدد العاملين في المجال الإعلامي الذين قتلوا في غزة حتى الآن 273 صحفيا، فيما وصفته شبكة الجزيرة بـ"نية واضحة لدفن الحقيقة".

ويمكن فهم هذا العدد غير المسبوق من الصحفيين المغتالين على أنه شكل من أشكال الرقابة الإسرائيلية، ويتماشى مع سياسة إسرائيل في منع دخول جميع الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وقد قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي أولئك الذين ينقلون الحقيقة من قلب غزة، بلا أي رادع، وغالبا ما استهدف الصحفيين بشكل مباشر، حتى وهم في طريقهم لتغطية أحدث المجازر.

ورغم الجهود التي تبذلها إسرائيل لإخفاء جرائمها، وتكرار وسائل الإعلام الأميركية مزاعمها السخيفة وغير المثبتة بأن الصحفيين هم في الحقيقة مقاتلون من حركة حماس متخفّون، فإن الصحفيين الفلسطينيين لم يستسلموا، بل واصلوا الوقوف، واحدا تلو الآخر، ليحلّوا محل من سقط قبلهم.

إعلان

وقد نقلت آفاز الكلمات الأخيرة التي سجلتها الصحفية والمصورة الفلسطينية مريم أبو دقّة، لابنها البالغ من العمر عشر سنوات، قبل ساعات فقط من مقتلها على يد الاحتلال الإسرائيلي. قالت فيها:
"أريدك، يا حبيبي، ألا تنساني أبدا… أن تدعو لي لا أن تبكي، أن تجعلني فخورة بك، أن تبقى قويا…".

وفي ليلة العاشر من أغسطس/آب، استهدفت ضربة دقيقة من الجيش الإسرائيلي خيمة إعلامية وقتلت ستة صحفيين، من بينهم مراسل الجزيرة المحبوب أنس الشريف، وفي 25 أغسطس/آب، قتلت إسرائيل ستة صحفيين آخرين في غزة. فقد استشهد خمسة منهم مع 21 شخصا آخرين في هجوم على مجمع ناصر الطبي، بينما قتل السادس في حادثة منفصلة في خان يونس.

وقد كانوا يعملون في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية، بالإضافة إلى وكالتي "رويترز" و"أسوشيتد برس"، وموقع "ميدل إيست آي".

وقبل مقتله، أوضح أنس الشريف، المراسل البالغ من العمر 28 عاما في قناة الجزيرة، سبب رفضه مغادرة شمال غزة رغم التهديدات الإسرائيلية بقتله. فقال:
"من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي لا يريد للصورة أن تخرج… لا يريد لنا توثيق الجرائم التي يرتكبها بحق شعبنا".

وأشار إلى اغتيال الصحفي إسماعيل الغول، مؤكدا أن "وضعنا هو ذاته وضع شعبنا، مثل الرجال والنساء والأطفال الذين يُستشهدون كل لحظة في غزة."

وكتب قائلا إن صحفيي غزة "أكثر تصميما على مواصلة طريق إسماعيل"، رغم الأخطار، وأضاف:
"كل مرة أوثق فيها مجزرة أو حدثا أو قصفا، أفكر بأنه ربما، من خلال هذا القصف أو هذه الصورة… ستنتهي الحرب. وهذا ما يدفعنا للاستمرار في تغطيتنا حتى آخر نفس".

إن مشاهدة مجازر الصحفيين من موقع المتفرج، فيما تواصل إسرائيل قتلهم في خيام الصحافة والمستشفيات، أمر لا يمكن أن يستمر- ليس فقط من أجلهم، بل من أجل إنسانيتنا جميعا. وكما جاء في بيان "مراسلون بلا حدود"، لا بد من وضع حد لهذا القتل. فقد نبهت RSF وآفاز، إلى أنه إذا استمر معدل قتل الصحفيين في غزة على هذا النحو، فلن يبقى أحد لينقل لكم الحقيقة.

وتطالب المنظمتان بإنهاء الإفلات الإسرائيلي من العقاب، وتوفير الحماية للصحفيين الفلسطينيين في غزة، وتتضمن مطالبهما الإجلاء الطارئ للصحفيين الراغبين بمغادرة القطاع، ودعوة حكومات العالم إلى استقبالهم. كما تطالبان بالسماح للصحافة الأجنبية بالدخول إلى غزة بشكل مستقل.

وفي وقت سابق من هذا العام، وتحديدا يونيو/حزيران، تعاونت منظمة RSF مع لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، وجمعت أكثر من 200 منظمة تعنى بالدفاع عن حرية الصحافة، للمطالبة بالسماح للصحفيين الأجانب بدخول قطاع غزة بشكل مستقل، وتوفير الحماية للصحفيين الفلسطينيين. غير أن عددا قليلا من وسائل الإعلام الأميركية انضم إلى هذا النداء، من بينها وكالة "أسوشيتد برس"، وصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، وإذاعة "إن بي آر".

لكن وبعد مضي 22 شهرا على منع الصحافة الأجنبية من دخول القطاع، يبدو من غير المرجّح أن تسمح إسرائيل فجأة بالدخول، خاصة بشكل مستقل. ومع ذلك، أعلن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مؤخرا أن الجيش الإسرائيلي سيبدأ بتنظيم جولات ميدانية داخل غزة للصحفيين الأجانب المرافقين للجيش.

إعلان

وعندما يرافق الصحفيون القوات العسكرية، فإن المواد التي ينتجونها تخضع للرقابة العسكرية. وقد استخدمت هذه الممارسة لأول مرة خلال ما سُمّي بـ"الحرب على الإرهاب"، عندما انضم صحفيون من كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية إلى القوات الأميركية خلال غزو العراق.

ونتج عن ذلك تغطية إعلامية مصطنعة أشبه بعرض في تلفزيون الواقع، مصحوبة بترويج هوليودي ومرجعيات سينمائية، فيما أُطلق عليه في أدبيات الحرب والإعلام اسم: "تسلية عسكرية" (Militainment).

ولكي نفهم تماما مدى سوء التغطية الإعلامية الغربية الرسمية للوضع في غزة، عندما يكون الصحفيون تحت وصاية الجيش الإسرائيلي وتخضع تقاريرهم لرقابة عسكرية، يكفي أن نطّلع على نتائج دراسة أجرتها مؤسسة "ذا بابليك سورس" (The Public Source)، وهي مؤسسة إعلامية مستقلة مقرها بيروت.

وقد حللت لقطات إعلامية التُقطت من قبل صحفيين رافقوا الجيش الإسرائيلي خلال توغلاته غير القانونية في جنوب لبنان، في أكتوبر/تشرين الأول 2024.

وبعد أسبوعين من بداية العدوان، انطلقت مجموعة مختارة بعناية من الصحفيين التابعين لمؤسسات إعلامية غربية نافذة- مثل "وول ستريت جورنال"، و"نيويورك تايمز"، و"بي بي سي"- في جولة ميدانية داخل جيبات ومركبات مصفحة إلى قريتين محتلتين في الجنوب اللبناني.

وقد أظهرت التحليلات المعمقة لتلك التغطية العديد من الثغرات، وأكدت أنها اعتمدت بشكل شبه كامل على مصادر الجيش الإسرائيلي، التي تم تكرارها دون أي تدقيق، إلى جانب مزاعم كاذبة تتعلق بلبنان، وحزب الله، والأمم المتحدة.

ورغم أن معظم هذه الوسائل الإعلامية تقدم نفسها على أنها منابر عادلة ودقيقة، فإن الدراسة كشفت أن تغطيتها كانت "مليئة بادعاءات غير موثقة، وأخطاء في الحقائق، ولغة لا إنسانية، ومعلومات مضللة مقصودة".

وقد تم حذف قدر كبير من المعلومات الأساسية، إلى درجة أن التغطية بأكملها وُصفت بأنها "عديمة القيمة صحفيا"، ولم تكن أكثر من دعاية حكومية "تم تسجيلها وإعادة تغليفها بدقة، وقدمت على أنها أخبار حقيقية، لكنها خلت من أي مساءلة، أو تدقيق، أو توازن- وهي المبادئ التي تميز العمل الصحفي المهني عن العلاقات العامة".

وتطرح هذه النتائج أسئلة أخلاقية خطيرة على الصحفيين الذين يفكرون في مرافقة قوة غازية غير شرعية، معروفة باستهدافها وقتلها الصحفيين.

هل يمكن اعتبار هذا السلوك ممارسة صحفية أخلاقية في أي سياق، خاصة عندما لا يتم إطلاع الجمهور على القيود المفروضة على الصحفيين؟
ومتى تتحول "مرافقة مجرمي الحرب" إلى "شرعنة لجرائمهم"؟

وقد نقلت منظمة "FAIR" الإعلامية عن افتتاحية "ذا بابليك سورس" تعليقا على هذه الدراسة قولها بشكل لا لبس فيه:
"لا تخدعوا أنفسكم: عندما يقبل الصحفيون شروط التضمين التي تفرضها إسرائيل، فإنهم يقبلون ضمنا بمقتل زملائهم كضريبة مقبولة في سبيل الحصول على لحظة دخول إلى ساحة القتل- لحظة منحها لهم القتلة، بشروطهم وأهوائهم".

لقد قُتل الصحفيون الفلسطينيون في غزة علنا على يد إسرائيل، ومع ذلك، تجاهلت معظم وسائل الإعلام الغربية الرسمية هذه الحقيقة، ولم تعترف حتى بعدم قدرتها على دخول غزة. وكما قال المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي:
"إن وسائل الإعلام الغربية التي ترفض أن تقول: إسرائيل تمنعنا من التغطية من غزة، وترفض الاعتراف بأن إسرائيل تقتل الصحفيين عمدا، فإن العار والفضيحة اللذين يلحقان بها يجب أن يكونا أبديين".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق