شكل المسرح الجاد مساحة صعبة السيطرة من قبل نظام الأسد، وكان تسييس المسرح علامة فارقة في تطور المسرح السوري. وبعد اندلاع الثورة السورية، انشغل المسرحيون بتوثيق الحكايات ونقل معاناة الشعب على الخشبة، في سعي حثيث نحو الحقيقة والعدالة والتعافي.
في هذا السياق، احتضن مسرح سعد الله ونوس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عرضا بعنوان "طعم الجدران مالح" للمخرجين رزان السيد وفواز حسون، بين 14 و16 أغسطس/آب الجاري. وعلى مدى ساعة ونصف، امتلأت القاعة بالجمهور رغم سوء التهوية وارتفاع الحرارة، ليغادر الحاضرون متأثرين وسط تصفيق حار.
قدم الممثل أنطونيو طعمة والممثلة نور أبو صالح شخصيتي العرض، ليظهرا عالقين في بيت مهدم بعد قصف المبنى و"تعفيشه" (سرقته). تدّعي الفتاة أنها مهندسة من البلدية، ويدعي الشاب أنه صاحب العقار، لكن مع تطور الأحداث تكشف علاقتهما بالمكان وذكرياته عن هوياتهم الحقيقية، ليصل الاثنان في النهاية إلى مكاشفات تقود إلى الخلاص.
أُنتج العرض بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) والمورد الثقافي، وقدمت الكاتبة رزان السيد نصا أصليا تدور أحداثه في الأحياء السورية المدمرة بعد إحكام نظام الأسد سيطرته عليها. وتولى المخرج حسون مهمة الدراماتورج، ليتقاسما معا مسؤولية الإخراج في عملهما الأول المشترك، وهما من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية.
ويشهد المسرح السوري حراكا لافتا منذ سقوط الأسد؛ إذ قدم التوأم ملص مسرحيتيهما "اللاجئان" و"كل عار وأنتم بخير" في محافظات عدة بعد عودتهما من فرنسا، كما احتضنت دار الأوبرا عرض "عوز" من إخراج ديما ونوس عن نص للكاتبة الإنجليزية سارة كين. إضافة إلى ذلك، واصل القطاع العام إنتاجه عبر أعمال مثل "الليلة الأخيرة ليست آخر الحب" للمخرج رائد مشرف على خشبة مسرح الحمراء، في حين يعقد مختبر دمشق المسرحي ورشاته الدورية، وكان آخرها بعنوان "نظرة جديدة في تكوين الدراماتورج" بإشراف الدكتور أسامة غنم.

ردود الفعل على العرض
يتحدث المخرج والكاتب علي ياغي للجزيرة نت عن المسرحية فيقول إنه تابع تطور النص منذ نحو سنتين بعد عرضه في قراءات مسرحية، "وهناك ارتقاء ملحوظ خاصة في الفصل الأخير عند الانتقال إلى الواقعية السحرية". ويضيف أن الفضاء المسرحي مصنوع بإتقان يتسق مع طبيعة العرض، وأثنى كذلك على الإخراج وأداء الممثل طعمة بصورة خاصة.
إعلان
أما عن مشكلات العرض فيقول ياغي "لم يكن دخول الشخصيات وبوحها سلسا بما يكفي في الفصل الأول، وقد لا تشبه اللغة الشخصيات ضمن الفصلين الواقعيين، لكن هذا يُبرر بالفصل الأخير إذا أردنا النظر بإيجابية".
يوافق بشير كيوان (25 عاما) طالب المعهد العالي للفنون السينمائية على فكرة أن العرض يتطلب من الجمهور السير نحوه وتقبله، ويشرح: "تطلعت لمشاهدة المسرحية لكني بشكل عام غير راض، فاللحظات التي أخذني فيها العرض نحوه كانت قليلة".
تُظهر الحوارات أن أحداث المسرحية تدور عام 2021، حين سمح النظام المخلوع بعودة الأهالي إلى مناطقهم المدمرة بعد إجراءات أمنية، ويؤكد ياغي أن الفرضية راهنة ومناسبة للسياق السوري، موضحا أن فقدان البيت والارتباط بالفضاءات المهجورة بين الذاكرة والواقع يشكلان جانبا أساسيا في الوجدان السوري.

شخصيتان على الحافة
توضح بطاقة العرض أن الشخصيتين تحملان أحرفا بدل الأسماء، وعن تجربة أداء شخصية من دون اسم يتحدث الممثل أنطونيو طعمة للجزيرة نت: "(س) هو مواطن سوري، كغالبية السوريين لم تخل حياته من قصة حدثت معه منذ عام 2011. إن عدم منح الشخصية اسما سمح لي أن أتكلم عن الإنسان السوري بشكل عام، فالاسم يدل على تجارب الشخص. (س) هو كل شخص عاش هذه التجارب". ويضيف خريج المعهد العالي للفنون المسرحية دفعة عام 2024 "حاولت عبر الشخصية رؤية حنية السوري وكرمه وأوجاعه، إذ يقتسم (س) مع الشخصية الثانية خبزته الوحيدة، ويعطيها غطاء لتجلس عليه".
أما بالنسبة للممثلة نور أبو صالح فإن غياب اسم الشخصية يعني أنها موجودة بكل زمان ومكان، ولا ترتبط بنمط أو هوية معينة، فشخصية (ر) التي لعبتها يمكن أن ترمز للنساء اللواتي عانين وما زلن يعانين من الفقد وآثاره النفسية الذي يعاني منه جميع السوريون. وتضيف "يؤثر هذا الأمر ببناء الشخصية فلا يوجد رابط بنمط معين، وذلك يتطلب صدقا وألما أكثر، لأنك تمثل الجميع".
توضح الممثلة نور أبو صالح أن مساحة الارتجال في المسرحية ظهرت تدريجيا، إذ وُلدت بعض اقتراحات الممثلين لأفعال الشخصيات ولغتها أثناء البروفات بالتنسيق مع الإخراج، ثم تبعها ارتجال محدود خلال العروض بحضور الجمهور وما يخلقه من مشاعر حية. ويؤكد الممثل أنطونيو طعمة أن العمل بدأ ملتزما تماما بالنص، وهو ما جذبه للمشاركة في العرض، موضحا "كان لدينا نص واضح وفرضية جاهزة علينا تقديمها وفق رؤية الكتاب".
ويضيف أنه مع التمكن من الشخصيات بدأ بعض الارتجال في الأسبوع الأخير، لكنه اختار الالتزام بالنص المكتوب أكثر من الاعتماد على الارتجال، رغم أن تدريبه الأكاديمي يمنحه مساحة للتجريب.
أما الكاتبة رزان السيد فتشرح أن خصوصية العمل تكمن في المكان الذي تدور فيه الأحداث، حيث يقود الشخصيات تدريجيا إلى مزيد من البوح وصولا إلى مساحة الخيال التي تشكل جوهر الحبكة.
وعن رهان إخراج نص أصلي، يوضح المخرج فواز حسون أن العمل على نص غير مقتبس ينطوي على مخاطرة، لكنه يمنح أيضا قوة إضافية لأنه يتيح صياغة رؤية إخراجية منذ مرحلة الكتابة، مضيفا "في دمشق، التي تحتضن عددا قليلا من المسرحيات الأصلية، هناك حاجة ماسة لأن نروي حكايتنا ونسمع أصواتنا".
إعلان
ويختتم الكاتب والمسرحي الفلسطيني السوري علاء الدين العالِم بالقول إن الاقتباس حالة طبيعية في كل المسارح العالمية، لكنه يشدد على أهمية دعم النصوص السورية الأصلية، مضيفا: "كما روى السوريون حكاياتهم عبر المقالة والرواية وسائر الفنون، يجب أن يحضر المسرح السوري الأصلي بقوة".

المسرح السوري بعد النظام المخلوع
يؤكد الكاتب والمسرحي علاء الدين العالِم أن وجود حركة مسرحية في سوريا يتيح للمسرحيين في الخارج فرصا للعمل داخل البلاد، مشيرا إلى أن المسرح السوري قدم عروضا في دول عديدة لنقل الحكاية السورية في حين يمكن وصفه بـ"مسرح الشتات"، بينما بقيت العروض في الداخل محدودة. ويرى أن الأولوية الآن هي عودة المسرح السوري إلى سوريا، وتجاوز مرحلة رواية السرديات نحو الاشتباك مع السلطة والمجتمع والقيم، معتبرا المسرح فعلا مدنيا واجتماعيا وسياسيا يدعو الناس للتجمع والنقاش.
ويضيف العالِم أن على المسرح التوجه إلى مدن وفضاءات بديلة بعيدا عن القاعات التقليدية، مقترحا فن الأداء كخيار مناسب يخرج من الكلاسيكية إلى الفضاء العام، سواء في بهو جامعة أو نفق مروري، للاقتراب من جمهور مختلف، واصفا هذا الفن بأنه مشاغب وقادر على جذب المتلقين.
ويختتم، بصفته مخرج مسرحية "لا مخرج" (2015)، قائلا: "نحن في مرحلة ما بعد الأسد، وعلينا الوصول إلى مرحلة ما بعد المسرح المستقل".
ويشرح أن المسرح المستقل بدأ عام 2009 بتمويل أوروبي خارج الأطر الحكومية والخاصة، لكنه يواجه بيروقراطية ومشكلات تمويل، مشددا على أهمية تجاوز الاعتماد على المنح والبحث عن مصادر بديلة، منها إعادة تفعيل ثقافة قطع التذاكر التي ازدهرت في سوريا خلال خمسينيات القرن الماضي.
0 تعليق