وفي قلب هذه الساحات الافتراضية مترامية الأطراف، يقف المستخدم السعودي، شاهداً وفاعلاً، متأثراً ومؤثراً، في معادلة معقدة من التفاعل تُجسِّد حيرةَ العصر: أين يبدأ التأثر، وأين ينتهي؟
لطالما كانت الثقافات تتأثر وتؤثر عبر الحدود، لكن سرعة وكثافة هذا التبادل في عصر السوشيال ميديا تُعدّ ظاهرة غير مسبوقة، بدأ المستخدم السعودي، كغيره، «متلقياً» في المراحل الأولى، وتدفقت عليه أنماط حياة، وقيم جمالية، وخطابات فكرية، واتجاهات موضة، وأشكال ترفيه من كل حدب وصوب.
كان التأثر سريعاً، أحياناً سطحياً وأحياناً عميقاً يلامس البنى الثقافية والاجتماعية.
شهدنا تقليداً للهجات، وتبنياً لسلوكيات مستوردة، واستهلاكاً غير مسبوق لمنتجات روجت لها المنصات بقوة، وربما تأثراً بفردانية مفرطة تتعارض مع نسيج المجتمع الجماعي. كانت المخاوف مشروعة: هل ستذوب الهوية في هذا الطوفان الرقمي؟ هل سيصبح الشباب السعودي مجرد صدى لصوت الآخر؟
لكن النظرة السلبية التي ترى المستخدم السعودي مجرد «مُتأثِر» سلبي لم تدم طويلاً. برزت ظاهرة «المؤثر السعودي» بقوة، لتعيد رسم المعادلة.
لم يعد الأمر مجرد استهلاك، بل إنتاج، لم يعد تقليداً أعمى، بل تمثيلاً واعياً وخلقاً مبتكراً، وتسويقاً ذكيّاً.
تحول السعوديون من «ركَّاب الموجة إلى صُنَّاعها».
استطاع رواد الأعمال والمتاجر الصغيرة الوصول إلى جمهور غير مسبوق، محلياً وعالمياً، وتحولت المنصات إلى أسواق افتراضية نابضة، وولدت مهن جديدة تماماً (كإدارة المحتوى والتسويق الرقمي) ووفرت فرصاً اقتصادية واسعة.
برز محتوى يعكس الثراء الثقافي السعودي: من عادات الضيافة، إلى الأهازيج الشعبية، إلى فنون الطهي المحلية، إلى لهجات المناطق المتنوعة. أصبح السوشيال ميديا وسيلة قوية للحفاظ على التراث وتسويقه بطرق عصرية جذابة.
كما لعب المؤثرون دوراً في تعزيز قيم اجتماعية إيجابية كالتسامح والتطوع والاهتمام بالصحة النفسية والجسدية، كذلك التوعية البيئية، مستخدمين أساليبَ أكثرَ قرباً من الشباب من الخطاب التقليدي.
تحولت المنصات إلى منابر لدعم رؤية الوطن 2030، والترويج للإنجازات التنموية الضخمة، والدفاع عن صورة المملكة أمام أي هجمات تشويه ممنهجة، وأصبح صوت السعودي مسموعاً في الدفاع عن قضاياه الوطنية بفخر ووطنية.
أخبار ذات صلة
لكن هذا التأثير الباهر لا يعني غياب التحديات المرتبطة بالتأثر:
- الاستهلاكية المفرطة: لا يزال الترويج للمنتجات الاستهلاكية والرفاهية المبالغ فيها يشكل ضغطاً على شرائح كبيرة، خاصة الشباب.
- تشويه القيم والتقليد الأعمى: استمرار تدفق محتوى قد يتعارض مع الثوابت الدينية والاجتماعية، أو يشجع على سلوكيات خطيرة أو غير أخلاقية تحت شعار «الحرية الشخصية».
- الإدمان الرقمي وتأثير الصحة النفسية: مقارنة الحياة الواقعية بالحياة «الافتراضية» على المنصات، والتنمر الإلكتروني، وإهدار الوقت، كلها آثار سلبية تمس الجميع، بمن فيهم السعوديون.
- تحدي المحتوى الهادف: في خِضَمّ كمّ المحتوى الهائل، يظل الكفاح مستمراً لرفع جودة المحتوى وتشجيع الإنتاج الفكري والثقافي والفني العميق الذي يثري ولا يلهي فقط.
لم يعد السؤال: هل السعوديون متأثرون أم مؤثرون في السوشيال ميديا؟ السؤال الأجدى هو: كيف نُحسِّن من قدرتنا على التأثر الإيجابي، ونعزز تأثيرنا الهادف؟
المستخدم السعودي أثبت، بلا شك، أنه ليس مجرد رقم في إحصائيات الاستهلاك، بل هو «فاعل رئيسي» في تشكيل المشهد الرقمي.
لقد تحول من متلقٍ سلبي إلى مبدع، ومن مستهلكٍ إلى منتج، ومن متابعٍ إلى قائد رأي.
إن تحديات التأثر السلبي قائمة، لكنها لا تُقلل من حجم الإنجاز في مجال التأثير الإيجابي والوطني والثقافي و الاقتصادي.
مستقبل التأثير السعودي في السوشيال ميديا مرهونٌ باستمرار هذا التحول النوعي: من صناعة المحتوى إلى صناعة «المحتوى الهادف»، ومن جذب المتابعين إلى «إلهام المجتمعات»، ومن المشاركة في الساحة الرقمية إلى «قيادة الحوار العالمي» بثقة وهوية راسخة، مستلهمين قيمنا الأصيلة، ومتوائمين مع طموحات وطننا المتجددة.
في هذا التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الانفتاح والثبات، يكمن سر نجاح السعودي في أن يكون صانعاً للأمواج، لا مجرد ركَّابٍ للتِّيار.
0 تعليق