د/ جمال شقرة أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس
كلمة هرتلة ليس لها مقابل في العربية الفصحى، ويقصد بها في العامية «الكلام الفارغ»، أي الفارغ من المعنى أو التصرفات غير المفهومة. فالمهرتل هو الذي ينطق بكلمات لا معنى لها، كلمات متجاورة الواقع والحقائق الموضوعية ويرتبط بالهرتلة الهلوسة، والهلوسة تعني الإدراك الخاطئ للأشياء، ربما بسبب تلف أصاب المهرتل المهلوس في بعض خلايا منه، نتيجة الإفراط في تعاطي الخمور أو إدمان المخدرات. فالمهرتل يجوز أن يكون مهلوسا، والذي أصيب بالهلاوس ليل نهار يهرتل.
ورغم أنه يكاد ينعقد الإجماع على أن كلمة الهرتلة «نحتها» المصريون حديثا واستخدموها كرد فعل مصري أصيل على بعض برامج «التوك شو» التي تستضيف المهرتلين أعداء الوطن والدولة المدنية، إلا أن المفتي السابق الشيخ علي جمعة استخدمها في أحد البرامج التليفزيونية، ونسبها إلى الفصحى، وعدّها مصطلحًا «منحوتًا»، وأشار إلى أن الهرتلة مشتقة من فعل تهرا، ومنها كلمة «هَتَرَ» (بضم الهاء وكسر التاء) ومعناها «حَمُق»، ومنها «اهتراء». فكل مهرتل أو متهرئ أحمق، وأشار الشيخ علي جمعة أيضا إلى أنها وإن لم تكن من العربية الفصحى إلا أنها منحوتة تشبه «بسملة» و«حمدلة» و«درعمة».
والحقيقة أن برامج التوك شو تستضيف بين الحين والآخر مهرتلين، ومعظمهم من الذين غربت شمسهم وتجاوزتهم الأيام، وأوشكوا على الرحيل. ورغم تاريخهم الحافل الذي كانت فيه السلبيات أكثر من الإيجابيات، وحفل بالنفاق والمداهنة والتلون، وداروا حيث دار كرسي الحكم، فهم وفديون واشتراكيون وناصريون وحواريون للرئيس المؤمن بطل الحرب والسلام! ساداتيون، وهم أيضًا بعد اغتيال السادات أنصار نائبه ابن كفر المصيلحة المنوفي حسني مبارك «صاحب الضربة الجوية» (مباركيون). وهم أخيرًا إخوان هللوا وصفقوا للإخوان وللرئيس الاستبن مرسي (رحم الله الجميع). وأخيرًا هم مع من غنوا له تسلم الأيادي البطل المشير الرئيس عبد الفتاح السيسي (سيساويون).
عندما التقيت مرشد الإخوان عمر التلمساني عدة مرات عام 1983/1982 كنت أناقشه في حقائق تاريخية تخص علاقة الإخوان بثورة 23 يوليو، صب جام غضبه على جمال عبد الناصر ووصفه بالعلماني الشيوعي الطاغية الكافر. وهالني وقتئذ ما شعرت به من حقد على عبد الناصر ورغبة في الثأر منه، ولقد عبر هو عن هذا الشعور بقوله: إنه ثأر لا يمحوه إلا الدم. وإن كان هذا الحقد يبرره تأثير السجن وصدمة الإخوان في موقف عبد الناصر منهم، إلا أن الموقف غير الموضوعي لعمر التلمساني من إنجازات جمال عبد الناصر لم أجد له مبررا، خاصة موقفه من السد العالي والمصانع إذ قال وقتئذ إن إنجازات عبد الناصر لم تكن لوجه الله بل كانت من أجل مجده الأجوف!
وعندما خرجت من مقر مجلة الدعوة بسوق التوفيقية، كنت أحاول أن أجد تفسيرًا للهجوم. وكنت متفهما أن من حق عمر التلمساني أن يغضب لأن عبد الناصر حلّ جماعة الإخوان، وأنهم فشلوا في اغتياله في المنشية يوم 26 يوليو 1954، لكني لم أكن قادرّا على فهم تجاوز الشيخ وسبّه لعبد الناصر وتجاهله لإنجازاته، وتوعده بالعمل المستمر على تشويه صورته بعد رحيله. لكني أرحت نفسي بتفسير مستوحى من قراءاتي في علم النفس والصحة النفسية، رغم أننا لا نلجأ في الدراسات التاريخية للتفسير النفسي للأحداث والوقائع، إلا أنني أقنعت نفسي وقتئذ بأن الرجل أصيب بـ«هلاوس ما قبل الرحيل».
هلاوس شوّهت رؤيته للإنجازات، فصورت له السد العالي على أنه سد مشؤوم منكود، والمصانع العملاقة أنها لمجد عبد الناصر الأجوف، وليست لعلاج مشكلة انحراف البنيان الإنتاجي التي كانت تعاني منها مصر، حيث كان الاقتصاد المصري يعتمد على قطاع الزراعة فقط ومحصول نقدي واحد هو القطن. هلاوس أعمتْه عن فهم المقالات العالمية التي أشادت وقتئذ بتطور الاقتصاد المصري.
عموما رحل عمر التلمساني بهلاوسه يوم 22 مايو 1986 عن عمر يناهز 82 عاما تقريبًا.
وتكرر نفس المشهد أثناء حواري مع المستشار صالح أبو رفيق، وهو عضو مكتب الإرشاد الذي تفاوض مع مستر إيفانز الإنجليزي من وراء ظهر مجلس قيادة الثورة. كان صالح أبو رفيق أشد حقدًا ووصف عبد الناصر بصفات بشعة، ولم تكن انتقاداته الثورة يوليو موضوعية، الأمر الذي ذكرني بلقاء عمر التلمساني وموضوع «هلاوس ما قبل الرحيل».
ورحل صالح أبو رقيق يوم 12 فبراير 1989 عن عمر يناهز 80 عاما.
ولقد لفت نظري أن اللواء شرطة صلاح شادي مؤسس قسم الوحدات في النظام الخاص لجماعة الإخوان، الذي اعتقل عشرين عاما تقريبا يسبب اشتراكه في التخطيط لاغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية، كان هادئا أثناء حواري معه، وكان يقارعني الحجة بالحجة، ولم يسب جمال عبد الناصر أو يصفه وصفا قبيحًا كما فعل صالح أبو رقيق. ولقد توفي يوم 12 فبراير 1989 عن عمر يناهز 68 عاما، أي إنه توفي قبل أن يصل إلى مرحلة الشيخوخة. وربما يفسر هذا موقفه أثناء الحوارات، لكن ما أدرانا لو كان قد مد الله في عمره ووصل إلى الثمانينيات أو التسعينيات هل كان سيصاب بـ«هلاوس ما قبل الرحيل» كبقية أعضاء مكتب الإرشاد أم لا؟
ولقد قابلت الراحل فؤاد سراج الدين الذي تقلد منصب وزير الحربية ووزير الداخلية قبل ثورة 23 يوليو 1952.
كان عمره عندما تحاورت معه حوالي 73 عاما، ورغم موقفه كوفدي وخلافه مع الثورة ورغم محاكمته أمام محكمة الثورة، إلا أنه كان موضوعيًا في تفسير أسباب الخلاف بين الوفد والثورة، ولم يصدر عنه أي كلمة نابية أو حكم غير موضوعي على جمال عبد الناصر، ورحل عن عمر يقترب من 90 عاما ولم يصدر منه أي سباب لعبد الناصر.
و في السنوات الأخيرة ورغم مرور نصف قرن على رحيل عبد الناصر أصابت لعنة «هرتلة ما قبل الرحيل» عددا من أصحاب الياقات البيضاء الذين استفادوا بصورة أو بأخرى من إنجازات الجمهورية الأولى، ومن الحراك الاجتماعي الذي نفذته ثورة 23 يوليو. والحقيقة أن عدد هؤلاء الذين تنكروا لعبد الناصر ليس بالقليل، ولقد تنوعت أساليب هرتلة هؤلاء والأكاذيب التي حاولوا إلصاقها بعبد الناصر لتشويه تاريخه.
يمثل هؤلاء خير تمثيل آخرهم - ولن يكون الأخير بالطبع فالهجوم على ثورة يوليو وعبد الناصر لن يتوقف - أقصد السياسي والدبلوماسي الشهير عمرو موسى الذي تخرج في كلية الحقوق بعد نجاح ثورة 23 يوليو يسبع سنوات أي عام 1957، وتقلد عديدًا من المناصب الراقية إبان الجمهوريتين الأولى والثانية، إلى أن وصل إلى آخر المناصب كأمين عام لجامعة الدول العربية. واللافت للنظر أنه لم يعرف عنه كراهيته لجمال عبد الناصر أو هجومه عليه، قبل عام 2015 عندما أصدر مذكراته التي حكى فيها سيرته الذاتية وهاجم فيها جمال عبد الناصر.
كان وقتئذ قد وصل إلى سن 79. اتهم عمرو موسى جمال عبد الناصر بأنه كان يستورد طعاما من سويسرا، ولما كانت شهادات كل الذين عاشوا واقتربوا من عبد الناصر قد أكدت أن عبد الناصر لم يشتر طعاما من الخارج قط، وأنه كان عاشقا للجبن القريش لدرجة أنه كان يأخذ ما يكفيه منها في الطائرة أثناء رحلاته الخارجية، ووفقا لتقارير المخابرات الأمريكية فإنه حين كان يحتفل يوم الخميس مع أسرته كان يأكل أكل أي طبقة وسطى مصرية، مثل الملوخية بالأرانب، أو اللحم والأرز وأي خضار.
ولقد تعرض عمرو موسى لهجوم شديد بسبب هذا الادعاء، لدرجة أنه تراجع وغير كلامه مؤكدا أنه كان يقصد طعامًا طبيًا. ولم يقبل عشاق عبد الناصر بهذا التراجع أو التبرير. والمثير للدهشة أن عمرو موسى بعدما بلغ عمره حوالي 89 عاما عاد وهاجم عبد الناصر واتهمه بأن حكمه كان حكمًا ديكتاتوريًا، وأنه ارتكب أخطاء كثيرة، وأنه كان يتخذ قرارات كثيرة دون أن يستشير أحدًا. ولما كانت وثائق عبد الناصر تثبت عكس ما ردده عمرو موسى، لذلك تعرض لهجوم عنيف.
والحقيقة أن الأمر يستحق التريث قبل أن أتهم وزير خارجية مصر الأسبق وأمين عام جامعة الدول العربية بأنه دخل مرحلة «هرتلة ما قبل الرحيل». ربنا يحفظه ويزيد من هجومه على عبد الناصر، فكل هجوم غير مبرر على الزعيم الذي حرر مصر من الاستعمار والعبودية، وأيّد حركات التحرر الوطني، وكان أحد أبرز زعماء حركة عدم الانحياز - بشهادة عمرو موسى نفسه قبل أن يتحول - كل هجوم يضيف لعبد الناصر ولا ينتقص من قدره، بل ينتقص من قدر الأقزام الذين يهاجمونه، خاصة هؤلاء الذين يعانون من «هرتلة ما قبل الرحيل».
اقرأ أيضاً
بعد تطاوله على الرئيس جمال عبد الناصر.. رسالة نارية من مصطفى بكري لـ عمرو موسىيوسف القعيد لـ «الأسبوع»: لا تأثير للتسجيلات الصوتية على إيماننا بجمال عبد الناصر
حقيقة التسجيلات المسربة للرئيس جمال عبد الناصر.. «القصة كاملة»
0 تعليق