أثارت التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي اتهم فيها فرنسا بالتقاعس في مكافحة معاداة السامية، غضبًا واسعًا في باريس وأعادت فتح ملفات دبلوماسية حساسة بين فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة.
فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتبر هذه الاتهامات "إهانة لفرنسا بأكملها"، خصوصًا بعد رفض السفير الأميركي في باريس الاستجابة لاستدعاء وزارة الخارجية الفرنسية، ما أضاف مزيدا من التوتر على العلاقات بين الحلفاء التقليديين.
معاداة السامية: واقع أم ورقة سياسية؟
قال الكاتب والباحث السياسي هلال العبيدي خلال حديثه إلى "ستوديو وان مع فضيلة" على سكاي نيوز عربية، إن مسألة معاداة السامية أصبحت في فرنسا "موضوعًا مستهلكا" يُستخدم أحيانًا لأغراض سياسية.
وأوضح أن فرنسا دولة علمانية دستورية، تمنح الحقوق لجميع مواطنيها بغض النظر عن الدين أو العرق، مشيرا إلى أن بعض الاتهامات توجه أحيانًا ضد الباحثين والفلاسفة الذين يطرحون آراء تاريخية، كما حدث مع الفيلسوف الراحل روجيه غارودي.
وأكد العبيدي أن هذه القضية غالبًا ما تُستغل سياسياً، لا سيما من قبل جهات خارجية أو بعض المنظمات والجمعيات، لخلق ضغط على باريس أو تشويه صورتها الدولية.
وأضاف: "اليهود في فرنسا مندمجون مع المجتمع الفرنسي، والمسألة في الغالب لا تتجاوز بعض الحوادث الفردية، سواء ضد اليهود أو المسلمين أو جماعات أخرى، ولا يمكن تعميمها".
بين الإحصاءات والواقع
في المقابل، أشار الأكاديمي والخبير في الشؤون الإسرائيلية، نائل الزعبي، إلى أن الحديث عن ارتفاع حالات معاداة السامية في فرنسا بنسبة 300 بالمئة يستند إلى بيانات فرنسية رسمية، لكنه حذر من استخدام هذه الأرقام لأغراض سياسية، معتبرا أن الأمر أصبح تكتيكا سياسيا بعد حرب غزة الأخيرة.
وأوضح أن مظاهر معاداة السامية لم تبدأ مع أحداث أكتوبر الأخيرة، بل هي ظاهرة موجودة منذ سنوات قبل الحرب، ويجب النظر إليها في سياق أوسع لا يختزلها في أحداث محددة.
وأضاف الزعبي أن هذه الاعتداءات لا تقتصر على الإسرائيليين، بل تشمل اليهود عمومًا، وأن فرنسا، كدولة متحضرة وعمود من أعمدة الديمقراطية الأوروبية، يجب أن تتعامل مع هذه الظواهر بالقانون والتعليم والتوعية قبل اتخاذ أي إجراءات عقابية.
التوترات الدبلوماسية بين باريس وتل أبيب
أحد أبرز عناصر الأزمة الحالية هو رفض السفير الأميركي في فرنسا الاستجابة لاستدعاء وزارة الخارجية الفرنسية، وهو تصرف يخالف البروتوكول الدبلوماسي.
ويرى الخبراء أن ذلك قد يؤدي قريبًا إلى اعتبار هذا السفير "غير مرغوب فيه"، في سابقة تذكر بتصعيد العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة أثناء غزو العراق.
وفيما يخص موقف باريس من القضية الفلسطينية، أشار العبيدي إلى أن فرنسا تميل إلى دعم حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطينية، مع الدعوة لوقف الاستيطان في الضفة الغربية، وهو ما يعتبره نتنياهو تهديدًا لمصالح إسرائيل السياسية، وقد يكون سببًا لاستخدامه قضية معاداة السامية كورقة ضغط على فرنسا.
الاستغلال السياسي للقضية
اعتبر العبيدي أن نتنياهو يستغل هذه الاتهامات لتصفية حسابات سياسية، خصوصًا في ظل وضعه القانوني الدولي، حيث يواجه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وأوضح أن كلامه يمثل "هروبًا إلى الأمام" ويهدف إلى تشتيت الانتباه عن موقفه القانوني والسياسي.
وأكد أن الرئيس ماكرون يسعى للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، بينما يسعى نتنياهو لقطع الطريق أمام أي حل سلمي ممكن.
البحث عن حل حقيقي
وأكد الزعبي أن حل القضية الإسرائيلية الفلسطينية لا يكون عبر الشعارات الأوروبية أو الاتهامات السياسية، بل من خلال مفاوضات حقيقية بين الطرفين، بعيدًا عن أي ضغوط خارجية أو استخدام سياسات الإدانة.
وشدد على أن أي حديث عن دولة فلسطينية في هذه المرحلة في إسرائيل يفتقد للشرعية السياسية بسبب أعمال حماس الأخيرة، وأن ماكرون يحتاج إلى العمل على أساس حوار مباشر مع إسرائيل لتقريب وجهات النظر وحل المشكلات.
أزمة اتهامات معاداة السامية بين فرنسا وإسرائيل تكشف عن تداخل سياسي ودبلوماسي حساس، حيث تتقاطع التحديات الداخلية الفرنسية مع التحركات الإسرائيلية الدولية. ويبدو أن نتنياهو يستغل هذه القضية كورقة سياسية، بينما تحرص فرنسا على الدفاع عن سمعتها وموقفها العلماني الدستوري في معالجة الظواهر الاجتماعية مثل معاداة السامية.
يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لفصل السياسة عن حقوق الإنسان أن يؤدي إلى حل القضية الفلسطينية، أم أن الاستغلال السياسي لقضايا حساسة مثل معاداة السامية سيظل عائقًا أمام أي تسوية عادلة؟ الواقع الحالي يشير إلى أن الحوار المباشر والاعتماد على الحقائق الموثقة فقط هو الطريق الأكثر فعالية لتجنب تصعيد الأزمة.
0 تعليق