عبد الناصر بين إرث النهضة واتهامات الديكتاتورية.. جدل يتجدد - هرم مصر

سكاي نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هذه المرة، جاء الجدل من تصريحات وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى، الذي خرج عن أدبيات الدبلوماسية المعتادة، واصفاً جمال عبد الناصر بـ "الديكتاتور"، مشيراً إلى أن قراراته اتسمت بالتفرد وغياب التشاور، خصوصاً في ما يتعلق بقرارات الحرب والسلم.

دبلوماسي متحفظ يطلق تصريحاً صادماً

اعتاد الرأي العام على صورة عمرو موسى كدبلوماسي متحفظ، خدم طويلاً في وزارة الخارجية المصرية، ثم تولى أمانة جامعة الدول العربية، قبل أن يخوض تجربة سياسية في مصر ما بعد 2011. الرجل لطالما اعتُبر أقرب إلى الفكر العروبي أو الناصري في بعض مواقفه، ما جعل وصفه لعبد الناصر بالديكتاتور يبدو لافتاً، بل وصادماً للكثيرين.

خلال مقابلة، أشار موسى إلى أن عبد الناصر كان متفرداً في اتخاذ القرار، ولم يكن يستشير مؤسسات الدولة أو شركاءه السياسيين، خصوصاً فيما يتعلق بقرار الحرب والسلم.

واستشهد موسى بنكسة حزيران (يونيو) 1967، معتبراً أن العرب لا يزالون يدفعون ثمنها حتى اليوم.

عبد الناصر بين حب الجماهير ونقمة النخب

في تعليقه على هذه القضية عبر "التاسعة" على سكاي نيوز عربية، قدّم الدكتور عماد جاد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، رؤية تحليلية تكشف جانباً من الانقسام العميق حول عبد الناصر.

جاد ذكّر بأن عمرو موسى قضى عمره في السلك الدبلوماسي، وكان دوماً شديد التحفظ في حديثه عن عبد الناصر، معترفاً بوجود جوانب إيجابية تنموية وقومية في مشروعه. لكن ما قاله اليوم يكشف ـ بحسب جاد ـ أن هناك شخصيتين لعمرو موسى: الأولى الدبلوماسي الذي يميل إلى الفكر القومي ويتجنب الانتقادات المباشرة، والثانية السياسي الذي، بعد عقود من التجربة، يقرر قول ما كان يتجنبه سابقاً.

التعليم المجاني والحراك الاجتماعي.. الوجه المضيء

أوضح جاد أن مواقف موسى تعيدنا إلى ملاحظات متباينة حول إرث عبد الناصر:

الشق الاجتماعي والاقتصادي: قطاعات واسعة من المصريين استفادوا من مجانية التعليم والحراك الاجتماعي الذي فتح الباب أمام أبناء الطبقات الفقيرة للصعود اجتماعياً، ما ولّد شعوراً بالعاطفة تجاه عبد الناصر. الشق الآخر: عائلات غنية صودرت ممتلكاتها في إطار سياسات التأميم والإصلاح الزراعي، وهو ما خلق مشاعر غضب وعداء شديدين تجاه عبد الناصر.

هذا الانقسام الاجتماعي، برأي جاد، لا يزال قائماً حتى اليوم، حيث يُنظر إلى عبد الناصر بعين الحب من قبل المستفيدين من مشروعه الاجتماعي، وبعين النقمة من قبل المتضررين منه.

من اليمن إلى هزيمة 67.. حسابات خاطئة دفعت الثمن

يذهب عماد جاد إلى ما هو أبعد من توصيف موسى، معتبراً أن مشكلة الناصريين تكمن في تعاملهم مع عبد الناصر على أنه شخص بلا أخطاء. فالرئيس المصري الراحل، بحسبه، كان إنساناً له نجاحاته وإخفاقاته، لكنه ارتكب أخطاء استراتيجية كبرى دفعت مصر والعرب ثمنها غالياً.

يشير جاد إلى أن مقدمات هزيمة 1967 لم تبدأ في ذلك العام، بل تعود إلى قرار التدخل في اليمن عام 1962، حين انخرط الجيش المصري في حرب استنزفت موارده وأرهقته قبل أن يواجه إسرائيل.

أهل الثقة مقابل أهل الكفاءة.. مأزق الجمهوريات العربية

كما أن الاعتماد على "أهل الثقة" بدلا من "أهل الكفاءة" قاد إلى كوارث، أبرزها تعيين المشير عبد الحكيم عامر وزيراً للحربية، في وقت كان يفتقر فيه إلى الكفاءة العسكرية اللازمة، ما انعكس على أداء الجيش المصري في تلك الفترة.

ويرى جاد أن هذه الظاهرة لم تقتصر على مصر، بل شملت معظم الجمهوريات العربية التي نشأت بعد الاستقلال، حيث سيطر العسكريون على الحكم وأقصوا القوى المدنية والسياسية، فكانت النتيجة سلسلة من الكوارث والانقلابات.

البروباغندا الناصرية.. شعارات كبرى وواقع صعب

أحد المحاور التي تطرق إليها جاد يتعلق بالبروباغندا الواسعة التي رافقت الحقبة الناصرية. فقد رسخت ثورة يوليو 1952 شعارات مثل القضاء على الاستعمار والإقطاع وبناء مجتمع العدالة الاجتماعية. هذه الشعارات، التي دُرّست للأجيال في المدارس، صنعت صورة مثالية لعبد الناصر في أذهان ملايين العرب.

لكن هذه الصورة المثالية، بحسب جاد، اصطدمت بالواقع بعد نكسة 1967، حين اتضح أن الشعارات لم تُترجم إلى قوة عسكرية أو نهضة اقتصادية مستدامة.

ومع ذلك، بقيت صورة عبد الناصر راسخة في وجدان كثيرين، لكونه رمز الكرامة العربية في مواجهة الاستعمار، حتى وإن لم ينجح مشروعه في النهاية.

عبد الناصر والإخوان.. تحالف قصير وصراع طويل

في تحليله، لم يغفل جاد الإشارة إلى علاقة عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين. فقد أكد أن الرجل كانت له بالفعل صلات بالجماعة قبل ثورة يوليو 1952، لكن الخلاف سرعان ما تحوّل إلى صراع على السلطة بعد نجاح الثورة.

الإخوان أرادوا القفز إلى الحكم، بينما تمسك عبد الناصر بزمام السلطة، فحدث الصدام الذي انتهى بإقصاء الجماعة وتعرضها للملاحقة. يرى جاد أن هذا النموذج يتكرر في العالم العربي، حيث تتناوب السلطة بين تيارين رئيسيين: العسكر والإخوان، فيما تدفع القوى المدنية ثمن هذا الصراع المستمر.

الإخوان والعسكر.. ثنائية تُقصي القوى المدنية

أكد جاد أن معاناة العالم العربي، ومصر تحديداً، تكمن في الثنائية الخانقة بين الإخوان والعسكر. فحين يسقط الإخوان، يحكم العسكريون، وحين يتراجع العسكر، يظهر الإخوان مجدداً. وفي الحالتين، يكون البديل الوحيد هو تغييب القوى المدنية التي من المفترض أن تعبر عن نبض المجتمع.

روى جاد تجربة شخصية حين انضم إلى حزب سياسي في مصر عام 2015، مشيراً إلى أن الحزب الذي بدأ قوياً تعرض لاحقاً للتفكك بفعل تدخلات السلطة، ما يعكس حجم الصعوبة التي تواجه القوى المدنية في البقاء ضمن مشهد يهيمن عليه الإخوان والعسكر معاً.

الدين في خدمة السياسة.. تحالف يعيد إنتاج الأزمة

جانب آخر لا يقل أهمية في تحليل جاد هو العلاقة بين السلطة ورجال الدين. فبحسبه، كثير من الأنظمة العربية استندت إلى توظيف الدين في خدمة السياسة، وهو ما أسهم في تعزيز شرعية الحكام وإسكات المعارضة.

وأشار إلى أن عبد الناصر نفسه كانت له صلات برجال الدين في بداية حكمه، قبل أن يدخل في صراع مع الإخوان.

هذا التوظيف السياسي للدين ترك آثاراً ممتدة حتى اليوم، حيث ما زالت التيارات السلفية والإخوانية فاعلة في المجال العام المصري، رغم كل التحولات التي مرت بها البلاد.

إرث عبد الناصر.. بين أسطورة الزعيم وواقع الديكتاتور

إن عودة الجدل حول عبد الناصر عبر تصريحات عمرو موسى، وما تلاها من تحليل عماد جاد، تكشف أن الصراع على تقييم الماضي لا ينفصل عن تحديات الحاضر. فالقضية ليست مجرد نقاش تاريخي، بل تعكس أسئلة جوهرية حول طبيعة الحكم في العالم العربي، علاقة السلطة بالمجتمع، وحدود الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات المدنية.

عبد الناصر يبقى، في نظر مؤيديه، زعيماً واجه الاستعمار ورفع راية القومية العربية وفتح أبواب التعليم للفقراء. لكنه، في نظر خصومه، جسّد الديكتاتورية والقرار الفردي، وأدخل مصر والعرب في حروب خاسرة تركت آثارها حتى اليوم.

هل يتجاوز العرب أسر الماضي لبناء حكم رشيد؟

السجال حول جمال عبد الناصر لن ينتهي قريباً. فالرجل الذي رحل قبل أكثر من 50 عاماً لا يزال رمزاً متنازعاً عليه: بطل قومي عند البعض، وديكتاتور مسؤول عن الهزائم عند آخرين.

تصريحات عمرو موسى فجّرت هذا السجال مجدداً، وأظهرت أن إرث عبد الناصر ليس مجرد صفحات في كتب التاريخ، بل قضية حية تعكس معركة أوسع بين الحب العاطفي للحلم القومي والحاجة الملحّة إلى حكم رشيد يستند إلى المحاسبة والشفافية.

في النهاية، يبدو أن العالم العربي لا يزال أسير معادلة صعبة: إرث القومية الذي لم يتحقق كاملاً، وثنائية الإخوان والعسكر التي تكبل المجال المدني، وتوظيف الدين في خدمة السياسة.

وبين هذه المعادلات المعقدة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن أن يتحقق حلم النهضة العربية يوماً، بعيداً عن الديكتاتورية من جهة، وأوهام الشعارات من جهة أخرى؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق