في عالم تتناوب فيه لحظات الوصل والهجران بين الإنسان وذاته، يطل أبو حيان التوحيدي من صفحات التراث بوصفه صوتا فريدا للاغتراب الإنساني في أنقى وأقسى صوره، ومن نصه البديع "الإشارات الإلهية"، يقدم لنا لوحة فكرية وجمالية تتشابك فيها خيوط الفلسفة والصوفية والأدب، لترسم ملامح روح تبحث عن معنى وسط صخب الواقع وتناقضاته.
في هذا السياق، يأتي كتاب الباحث الأردني طاهر رشاد صبح "جماليات الاغتراب في الإشارات الإلهية للتوحيدي" ليعيد فتح أبواب التأمل في هذا النص العريق، واضعا القارئ أمام قراءة نقدية متأنية، تكشف عن عمق التجربة التوحيدية في بعدها الوجودي والجمالي، وتضيء على الدوافع والأساليب التي جعلت من الاغتراب فيه ليس مجرد حالة، بل مشروعا فكريا وجماليا متكاملا.
وقد صدر كتاب "جماليات الاغتراب في الإشارات الإلهية للتوحيدي" لطاهر رشاد صبح عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمان (2025)، ويمثل هذا العمل إضافة مهمة إلى حقل الدراسات الفلسفية والأدبية التي تتناول التراث العربي الإسلامي، إذ يزاوج بين التحليل النصي الدقيق واستكشاف البنية الجمالية والفكرية التي تمازجت في أسلوب التوحيدي ونثره الصوفي، كاشفا عن أبعاد جديدة لرؤيته الوجودية ومعاناته الإنسانية.
يمهد الباحث لعمله ببيان المنطلقات التي دفعته إلى اتخاذ "الإشارات الإلهية" محورا لبحثه، مشددا على أن النص التوحيدي يمثل تجسيدا مركبا لظاهرة الاغتراب، سواء على مستوى الرؤية الفلسفية أم الصياغة الأسلوبية. ويعزو اختياره هذا العمل إلى ثلاثة دوافع رئيسة:
أولها، أن الكتاب يجمع بين بنية النثر الصوفي وأدب الرسائل بما يتيحه من مجال رحب لرصد تحولات المعنى وألوان التعبير التي تنقل التجربة الروحية.
وثانيها، أن أبا حيان التوحيدي يعد من أعلام الفكر والأدب في الحضارة العربية الإسلامية، وقد جمع في تجربته بين العمق الفلسفي والابتكار الجمالي.
إعلان
ويتمثل ثالثها، في أن "الإشارات الإلهية" تشكل فضاء نصيا مثاليا لدراسة الاغتراب بوصفه ظاهرة إنسانية وفكرية، تتجلى في عزلة المؤلف ومعاناته، وفي توقه إلى تجاوز الواقع المأزوم نحو المطلق الروحي.
وفي التمهيد يرسم الباحث أيضا إطارا تصوريا للكتاب مبرزا أهميته في السياقين الأدبي والفلسفي، ومشيرا إلى أن التوحيدي قد أفرغ فيه شحنة وجدانية وفكرية كثيفة تكشف عن اغتراب وجودي وروحي متداخلين. ومن منظور الباحث، فإن مفهوم الاغتراب في النص ليس مجرد حالة شعورية عابرة، بل ظاهرة مركبة ذات امتدادات فلسفية ومعرفية، ترتبط بأسئلة الهوية والمصير والعلاقة المأزومة بين الفرد والمجتمع، ويؤكد أن الجماليات النصية للتوحيدي –بما تتضمنه من مناجاة وتأمل واستطراد– تفتح آفاقا أرحب لفهم التجربة الإنسانية في أعمق تجلياتها.
الفصل الأول: جماليات المضمون وتجليات الاغتراب
يفرد الباحث الفصل الأول لتحليل المضمون النصي لكتاب "الإشارات الإلهية"، متخذا منه منطلقا لاستجلاء أبعاد الاغتراب في تجربة أبي حيان التوحيدي، ويعتمد في هذا المسعى منهجا تحليليا يقوم على قراءة متأنية للنصوص، تفكك بنيتها الدلالية وتستنبط ما تنطوي عليه من إشارات وجودية، واجتماعية، وروحية، ونفسية.
ومن هذا المنهج، يميز الباحث بين أربعة أنماط رئيسية للاغتراب، يرى أنها تشكل النسيج الخفي الذي تتخلل به الكتاب، وتكشف عن رؤيا التوحيدي للعالم ولذاته.
أولا: الاغتراب الوجودي: يتبدى هذا النمط في إحساس التوحيدي العميق بالعزلة أمام عبثية الواقع وقسوته، وفي وعيه الحاد بالتناقضات التي تكتنف الحياة الإنسانية. فالنصوص تحفل بإشارات صريحة ومضمرة إلى حيرة الوجود، وإلى أسئلة المعنى التي تستنزف فكر المؤلف ووجدانه على السواء، ويأتي بحثه المضني عن غاية تبرر الحياة وتضفي عليها قيمة بوصفه رحلة شاقة في تضاريس النفس والفكر. ثانيا: الاغتراب الاجتماعي: ويتجلى في شعوره العميق بالانفصال عن محيطه البشري والثقافي، حيث يلح في نصوصه على رصد المسافة الشاسعة بينه وبين معاصريه. هذا الاغتراب لا ينحصر في كونه نفورا من السائد، بل يتجاوز إلى إحساس مأساوي بعدم الانتماء، وبأن الروح المبدعة محكومة بالعزلة حين تتخطى الأفق الفكري والاجتماعي لعصرها. ثالثا: الاغتراب الصوفي: ويأخذ هنا صورة ارتحال روحي دائم نحو الحقيقة المطلقة، إذ تتحول "الإشارات الإلهية" إلى ساحة مجاهدة بين الذات وأفقها الروحي الأعلى. في هذا النمط، يصبح النص فضاء لتجربة وجدانية متعالية، يسعى فيها التوحيدي إلى التخلص من أسر الماديات والارتقاء بالروح إلى مقام الصفاء والأنس بالله. وتتجسد هذه النزعة في لغة موشحة بالرموز والإيحاءات، تعكس تداخل البعد الجمالي بالبعد الروحي. رابعا: الاغتراب النفسي: ويستدل عليه من التوتر الداخلي الدائم الذي يطبع نصوص التوحيدي، وهو توتر ناتج عن صراع مرير بين المثاليات التي يتشبث بها المؤلف، والواقع المعيش الذي يخالفها أو يقصر عنها، ومن رحم هذا الصراع يتولد شعور متأصل بالقلق والوحشة، إذ يجد التوحيدي نفسه ممزقا بين عالم متخيل من الصفاء والكمال، وعالم واقعي مثقل بالنقص والخيبة، وهذا البعد النفسي لا يظهر كمجرد عرض من أعراض الاغتراب، بل كمكون أساسي في رؤيته للعالم والإنسان.الفصل الثاني: جماليات الأسلوب وتشكيل البنية النصية
ينتقل الباحث في الفصل الثاني إلى دراسة البنية الأسلوبية في "الإشارات الإلهية"، كاشفا عن ثراء الوسائط البلاغية التي اعتمدها التوحيدي، من مناجاة ودعاء وترسل ورد، وما تخللها من صور وتشبيهات متقنة، ويشير إلى أن التوحيدي جمع بين السلاسة التعبيرية والعمق الدلالي، فوفق بين لغة موحية متدفقة ومفاهيم فلسفية دقيقة، مما أتاح له نقل تجربته الاغترابية إلى القارئ بخطاب شخصي دافئ دون أن يتخلى عن متانته الفكرية، ويرى الباحث أن هذا المزج بين الخطاب الأدبي والوجداني والفلسفي أسهم في تشكيل بلاغة خاصة، تسهم في إبراز مأساوية التجربة ورهافتها في آن واحد.
إعلان
وحظي الكتاب بمقدمة وافية خطها أستاذ الأدب والنقد وعميد كلية الآداب بجامعة فيلادلفيا، الأستاذ الدكتور غسان إسماعيل عبد الخالق، أكد في مستهلها أن أبا حيان التوحيدي ظل على الدوام لغزا محيرا للنقاد والمفكرين قديما وحديثا بفضل عمق أدائه المعرفي وغموض مسلكه الشخصي، ويرى الدكتور غسان أن الباحث طاهر صبح نجح في النفاذ إلى العلاقة الملتبسة بين الكاتب ونصه، مستثمرا أدوات نقدية ومعرفية تمكنه من استجلاء أبعاد هذه الظاهرة.
النتائج والتوصيات
اختتم الباحث عمله بخاتمة رصد فيها أبرز النتائج التي توصل إليها، ومنها:
إن أدب الغربة في النثر العربي الإسلامي ميدان خصب يحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب. إن مخاطبة التوحيدي شخصية مجهولة في رسائله تعبر عن حوار داخلي عميق مع الذات. إن البنية البلاغية للنصوص تعكس بجلاء تعدد أبعاد الاغتراب: الوجودي، والاجتماعي، والصوفي، والنفسي. إن الحاجة ماسة إلى إعادة تحقيق "الإشارات الإلهية" وتنقيح نصوصه لضمان دقة نسبها وسلامة ضبطها.وأخيرا فإن كتاب "جماليات الاغتراب في الإشارات الإلهية للتوحيدي" لا يكتفي بتقديم قراءة وصفية فحسب، بل يطرح رؤية نقدية معمقة، تمكن القارئ من إعادة اكتشاف النص التوحيدي بوصفه مرآة لصراع الإنسان الأزلي مع ذاته ومع محيطه.
ومن الجمع بين التحليل النصي والتأمل الفلسفي، نجح طاهر رشاد صبح في أن يقدم إسهاما نوعيا في فهم الظواهر الجمالية والفكرية في التراث العربي، كاشفا عن أن الاغتراب في نصوص التوحيدي ليس عرضا عابرا، بل بنية فكرية وجمالية متكاملة، تستحق أن تظل موضوعا للحوار والدراسة.
0 تعليق