تمثل دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً عالمياً متقدماً في مسار التحول الرقمي، بعدما نجحت في جعل التكنولوجيا والابتكار جزءاً أصيلاً من بنيتها المؤسسية، وقد انعكس ذلك في قدرتها على الارتقاء بمؤشرات الأداء الحكومية، وتبوؤ مكانة بارزة على المستويين الإقليمي والعالمي في مجال تبني الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة.
تعكس هذه المكانة رؤية استراتيجية شاملة قادتها الدولة، ترتكز على الاستثمار في الرقمنة والبنية التحتية المتطورة للاتصالات، إلى جانب صياغة سياسات مرنة وذكية تواكب متطلبات المستقبل، الأمر الذي جعل من الإمارات بيئة حاضنة للتجارب الريادية في مجالات الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين والخدمات الذكية.
كما أسهمت هذه التوجهات في إحداث تحولات نوعية داخل المؤسسات الحكومية، إذ يعيد الذكاء الاصطناعي صياغة طبيعة الخدمات الوزارية وآليات تقديمها، لتصبح أكثر سرعة وكفاءة ودقة، بما يحقق وفورات كبيرة في الوقت والموارد، ويرتقي بجودة الخدمات المقدمة للمواطنين والمقيمين على حد سواء.
وبفضل هذه الجهود المتكاملة، استطاعت الإمارات أن تعزز موقعها كدولة سباقة في استشراف المستقبل، وكمحرك رئيسي للابتكار في المنطقة. وهو ما يرسخ صورتها كوجهة رائدة عالمياً في تحويل التحديات التكنولوجية إلى فرص للنمو الاقتصادي وتعزيز الاستدامة والتنمية الشاملة.
ثورة في الخدمات الحكومية
الأمين العام السابق لمجلس الإمارات للمستثمرين بالخارج، الخبير الاقتصادي، جمال الجروان، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الذكاء الاصطناعي بدأ يغيّر شكل الخدمات الحكومية في كثير من الدول، والهدف هو جعلها أسرع وأكثر دقة وأقل تكلفة على المواطن والحكومة معاً.
ويُبرز الجروان في هذا السياق أهم النقاط التي توضّح العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والخدمات الحكومية، على النحو التالي:
تحسين كفاءة تقديم الخدمات، من خلال الأتمتة الذكية وتقليل الروتين. اتخاذ قرارات أسرع وأدق، عبر تحليل البيانات الضخمة في ثوانٍ، وحتى التنبؤ بالاحتياجات. تجربة مواطن أكثر سلاسة، من خلال واجهات رقمية موحدة تربط كل خدمات الحكومة في منصة واحدة (مثل حكومة دبي الذكية)، علاوة على تخصيص الخدمات بناءً على ملف المواطن، بحيث يحصل على توصيات أو إجراءات جاهزة تناسب حالته. الأمن السيبراني وحماية البيانات، لا سيما وأن أنظمة الـ AI قادرة على اكتشاف محاولات الاختراق أو النشاطات المشبوهة في الوقت الفعلي.منصة الهوية الرقمية نموذجاً
ويشير إلى تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، مبرزاً على سبيل المثال منصة الهوية الرقمية -UAE Pass، وكذلك Dubai Now.
ويشار إلى أن الإمارات شهدت إطلاق العديد من الخدمات الرقمية، التي حققت نجاحاً كبيراً على مدار السنوات الماضية، كالهوية الرقمية ومنصة "تم"، وغيرها من الخدمات التي أطلقتها الوزارات المختلفة، بحسب تقرير لـ "وام".
تعد الهوية الرقمية -التي أشار إليها الجروان في حديثه- أول هوية وطنية رقمية لجميع المواطنين والمقيمين والزوار، وتسمح بوصول المستخدمين إلى خدمات الهيئات الحكومية المحلية والاتحادية، ومزودي الخدمات الآخرين. تقدم الهوية الرقمية أيضاً حلولاً سهلة للدخول إلى الخدمات عبر الهواتف الذكية دون الحاجة إلى كلمة سر أو اسم مستخدم، فضلاً عن إمكانية التوقيع على المستندات رقمياً، والتحقق من صحتها دون الحاجة لزيارة مراكز الخدمة.تسمح الهوية الرقمية بوصول المستخدمين إلى خدمات الهيئات الحكومية المحلية والاتحادية، ومزودي الخدمات الآخرين، كما تقدم حلولاً سهلة للدخول إلى الخدمات عبر الهواتف الذكية دون الحاجة إلى كلمة سر أو اسم مستخدم، فضلاً عن إمكانية التوقيع على المستندات رقمياً، والتحقق من صحتها دون الحاجة لزيارة مراكز الخدمة. وتتيح منصة أخرى، وهي منصة "تم" للخدمات الحكومية الرقمية في إمارة أبوظبي، الوصول إلى أكثر من 900 خدمة من خلال واجهة رقمية واحدة
أما تطبيق "دبي الآن"، فهو التطبيق الموحد للخدمات الحكومية في دبي حيث يقدم أكثر من 250خدمة ذكية من أكثر من 35 جهة حكومية وخاصة.
فوائد الـ AI
ويضيف الجروان: فوائد الذكاء الاصطناعي للخدمات الحكومية كثيرة، وتمسّ كل من سرعة الخدمة وجودتها وتكلفتها، وأهمها: (تسريع الإجراءات ورفع جودة الخدمة وخفض التكاليف واتخاذ قرارات مبنية على البيانات، علاوة على تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، وتحسين التواصل مع المواطنين، وزيادة القدرة على الاستجابة للطوارئ).
وتستخدم دولة الإمارات العربية المتحدة الذكاء الاصطناعي (AI) ونموذج شراكات القطاعين العام والخاص والأفراد (PPPP) لتحقيق التحول الرقمي. وقد وقعت حكومة أبوظبي اتفاقية مع شركة مايكروسوفت وشركة كور42 التابعة لمجموعة G42 والمتخصصة في الحوسبة السحابية السيادية، وبنية الذكاء الاصطناعي التحتية، والخدمات الرقمية، لتنفيذ نظام سحابي سيادي على مستوى الإمارة.
وتهدف هذه الاتفاقية إلى إنشاء بيئة موحدة عالية الأداء للحوسبة السحابية السيادية قادرة على معالجة أكثر من 11 مليون معاملة رقمية يوميًا بين الجهات الحكومية في أبوظبي والمواطنين، والمقيمين، والشركات، مما يجعل الخدمات أكثر كفاءة وسلاسة وتأثيرًا، بحسب البوابة الرسمية للحكومة.
منظومة الأداء الحكومي الاستباقي
وفي وقت سابق من هذا العام، أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، منظومة الأداء الحكومي الاستباقي.
تهدف المنظومة إلى دعم وتطوير العمل الحكومي ورفع مستوى الخدمات وتحقيق التوجهات الاستراتيجية لرؤية "نحن الإمارات 2031" وتحويلها إلى نتائج قابلة للقياس والتنفيذ من خلال تبني أحدث أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، والتنبؤ بالأداء، وتنفيذ التحليلات المعمقة، وفقا لوكالة أنباء الإمارات "وام".
وقال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: أطلقنا في الحكومة الاتحادية منظومة جديدة لقياس الأداء الحكومي، حيث تتيح المنظومة الجديدة دعم اتخاذ القرار ومتابعة الخطط والاستراتيجيات وتعزيز القدرة على توقع بعض التحديات والفرص المستقبلية وذلك باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
تعكس تجربة دولة الإمارات نموذجاً متقدماً في استثمار الذكاء الاصطناعي لتطوير الخدمات الحكومية، إذ لم تقتصر على الأتمتة أو التحول الرقمي فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى بناء منظومة متكاملة تربط بين المواطن والحكومة عبر قنوات موحدة وذكية. هذا النموذج بات مرجعاً إقليمياً وعالمياً يمكن للدول الأخرى الاستفادة منه، خصوصاً في ظل التوجه المتسارع نحو الرقمنة والاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي كعامل رئيسي لتحقيق التنمية المستدامة، وزيادة التنافسية، وتعزيز جودة الحياة للمجتمعات.شهادات عالمية
وتبرز دولة الإمارات كإحدى التجارب الرائدة التي نجحت في ترسيخ موقعها ضمن الصفوف الأولى عالمياً. ويعكس ذلك ما تحققه من مراكز متقدمة في المؤشرات الدولية المتخصصة، وما تنتهجه من استراتيجيات متكاملة تهدف إلى جعل التكنولوجيا والابتكار ركائز أساسية للنمو الاقتصادي وتعزيز كفاءة العمل الحكومي.
وفقاً لتقرير الأمم المتحدة لمسح الحكومة الإلكترونية 2024، الذي يركز على دور الحكومات في تسريع التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. حلت دولة الإمارات في المركز الأول عالميا في مؤشر البنية التحتية للاتصالات. بحسب تقرير مؤسسة "أوكسفورد إنسايتس" العام الماضي الذي ضم 193 دولة، تتصدر الإمارات دول المنطقة في مؤشر جاهزية الحكومة للذكاء الاصطناعي، مدفوعة بنتائج عالية نسبياً في الركائز الثلاث الذي شملها المؤشر، والتي تضم "الحكومة، وقطاع التكنولوجيا، والبيانات والبنية التحتية. في مؤشر الذكاء الاصطناعي الذي أطلقه معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان، والمبني على تقييم 36 دولة استناداً إلى 42 مؤشراً متخصصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، حصلت الإمارات على المرتبة الخامسة. يتوقع أن تشهد دولة الإمارات أكبر تأثير له في الاقتصاد بنسبة تقارب 14 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وبواقع 96 مليار دولار خلال 2030، وفق تقرير لـ"بي دبليو سي"، تناول التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط.الإمارات تقود مستقبل الـ AI
من جانبه، يشير المدير العام لشركة "تروث للاستشارات الاقتصادية" في أبوظبي، رضا مسلم، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
الذكاء الاصطناعي بمختلف أنواعه وإصداراته، يمثل قفزة إنسانية كبرى تماثل أهم الابتكارات التكنولوجية خلال الخمسين أو الستين عاماً الماضية، مثل الحاسوب والآلة الحاسبة. الذكاء الاصطناعي يحسن الأداء الوظيفي في المؤسسات من خلال تسريع عمليات البحث، وإنجاز الحسابات والرسوم البيانية والمعادلات المعقدة في لحظات، إضافة إلى تقديم صياغات احترافية للتقارير والرسائل الرسمية.وفيما يتعلق بالخدمات الحكومية، يوضح أن الذكاء الاصطناعي يسهم في تحسين تجربة المواطنين عبر تقليص زمن إنجاز المعاملات من أيام أو أسابيع إلى ساعات أو حتى دقائق، مشيداً بتجربة دولة الإمارات التي بادرت منذ وقت مبكر إلى اعتماد هذه التقنية وتوطينها.
وفقاً للاستراتيجية الوطنية للبلوك تشين من 2021 إلى 2031، سيتم تحويل ما يقرب من 50 بالمئة من المعاملات الحكومية إلى بلوك تشين، وبالتالي تعزيز نمو هذا القطاع. استحدثت الدولة العام الماضي منصب "الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي" في الوزارات والجهات الاتحادية بالدولة، الذي يتولى عدة مهام مثل التخطيط الإستراتيجي للذكاء الاصطناعي في الجهة الاتحادية، وتعزيز أفضل ممارساته، وتبنيه ضمن وحداتها ومشاريعها. تعد الإمارات أول دولة في العالم تعين وزيرا للذكاء الاصطناعي وذلك في عام 2017. نجحت وزارة المالية خلال رحلة تصفير البيروقراطية في إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي لتوفير تجربة سلسة وسهلة وفورية ودقيقة دون تدخل بشري، وفق "وام".ويشير مسلم في هذا السياق على سبيل المثال إلى توسع قطاع الرعاية الصحية المدعوم بالذكاء الاصطناعي في أبو ظبي، وهو ما يساعد الأطباء في إنجاز مهامهم بدقة وسرعة، خاصة في صياغة التقارير الفنية، مع وجود رقابة طبية للتأكد من صحة المخرجات.
وبخلاف قطاع الصحة، فثمة العديد من القطاعات التي شهدت مبادرات عديدة ذات أهداف طموحة للاعتماد على الذكاء الاصطناعي، من بينها على سبيل المثال المجال القضائي والتشريعي، فقد اعتمد مجلس الوزراء الإماراتي قراراً في وقت سابق هذا العام بإطلاق أول منظومة تشريعية ذكية متكاملة لتطوير التشريعات والقوانين في حكومة الإمارات قائمة على فكر وحلول الذكاء الاصطناعي. كذلك يشار إلى مبادرات في قطاعات خدمية مختلفة، وبما يعزز أداء الحكومة.
مبادرات ونماذج
ومن بين مبادرات تبني الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية، وفق مكتب وزير الدولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بعد، نموذج التنبؤ باحتمالية استقالة الموظف (التابع لوزارة المالية)، والمساعد الافتراض راشد وكذلك الحماية الذكية (دائرة الاقتصاد والسياحة)، ونظام Xovis الذي يوفر رؤية واضحة لحركة المسافرين (مطارات دبي)، علاوة على نظام "صائد تهديدات" للأمن السيبراني باستخدام الذكاء الاصطناعي (مطارات دبي)، علاوة على الأنظمة في هيئة الطرق والمواصلات، ومنها: نظام الرقيب في الحافلات ومقياس الذكاء الاصطناعي لسعادة المتعاملين ومحرك البحث الذكي لتشريعات الهيئة والتنبؤ بالطلب على مركبات الأجرة واستخدام الذكاء الاصطناعي في مسارات الدراجات.
يضاف إلى ذلك مشروع "عيون" وهو مشروع تقني يستهدف صناعة منظومة أمنية متكاملة بالتعاون مع الشركاء الاستراتيجين يتم بموجبه ربط جميع أنظمة المراقبة والكاميرات في القطاعين العام والخاص بمنظومة واحده تُشرف عليها القيادة العامة لشرطة دبي. وكذلك برنامج التنبؤ الإحصائي التابع للإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب في دبي، ونموذج معالجة اللغات الطبيعية (مؤسسة محمد بن راشد للإسكان).
0 تعليق