يواجه المشهد التجاري العالمي تحولات ملحوظة تفرض على أوروبا إعادة تقييم موقعها وعلاقاتها الاقتصادية في ظل بيئة مضطربة تتسم بارتفاع الرسوم الجمركية وتزايد المنافسة الدولية، وهي المتغيرات التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن بدائل قادرة على حماية مصالحه وتعزيز مكانة اقتصاده الموجه نحو التصدير.
تتصاعد الضغوط على دول القارة العجوز مع تراجع حركة التبادل مع بعض الشركاء التقليديين، الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى جاهزية الاتحاد الأوروبي لإعادة رسم خريطة شراكاته التجارية. وفي خضم هذه التحديات، يبرز خيار تعزيز التوجه نحو أسواق جديدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كفرصة لتعويض الفاقد.
يتزامن ذلك مع منافسة محتدمة مع قوى اقتصادية كبرى تسعى إلى ترسيخ نفوذها التجاري عالمياً، ما يضع أوروبا أمام اختبار صعب بين الحفاظ على مكتسباتها التقليدية والانخراط في سباق استراتيجي لإثبات حضورها في الأسواق الناشئة.
الشركاء التجاريين
في هذا السياق، تقول رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، إن أوروبا ينبغي أن تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع شركائها التجاريين خارج الولايات المتحدة، وذلك في تصريحات لها خلال جلسة نقاشية في المنتدى الاقتصادي العالمي في جنيف يوم الأربعاء.
وأضافت: "بينما كانت الولايات المتحدة - وستظل - شريكاً تجارياً مهماً، ينبغي لأوروبا أيضاً أن تهدف إلى تعميق علاقاتها التجارية مع ولايات قضائية أخرى، والاستفادة من نقاط القوة في اقتصادها الموجه نحو التصدير".
وتحدثت لاغارد في وقت سابق عن ضرورة قيام الاتحاد الأوروبي بتعزيز مؤسساته ومرونته الاقتصادية كوسيلة لزيادة الأهمية الدولية لعملة اليورو بعد أن بدأت الولايات المتحدة في رفع الرسوم الجمركية على شركائها التجاريين.
وأشارت إلى أن الاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يفرض تعرفة جمركية فعلية تتراوح بين 12 و16 بالمئة على واردات الولايات المتحدة من سلع منطقة اليورو. أما التعرفة الأساسية التي اتفقت عليها المفوضية الأوروبية وإدارة ترامب، والتي تؤثر على معظم السلع، فهي 15 بالمئة، وفق ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال".
وأضافت أن "الاتفاقيات التجارية الأخيرة خففت من حالة عدم اليقين العالمية، لكنها لم تقض عليها بالتأكيد، والتي لا تزال مستمرة بسبب بيئة السياسة غير المتوقعة"، موضحة أن موظفي البنك المركزي الأوروبي سوف يأخذون في الاعتبار آثار اتفاق التجارة على اقتصاد منطقة اليورو في توقعات سبتمبر المقبلة، وهو ما من شأنه أن يوجه قرارات البنك المركزي خلال الأشهر المقبلة.
تراجع التجارة مع واشنطن
من لندن، يقول الخبير الاقتصادي أنور القاسم لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
تشهد التجارة الأوروبية تراجعاً حاداً مع الولايات المتحدة. صادرات الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة إلى الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 10 بالمئة في يونيو/حزيران مقارنة بالعام الماضي، وهو أدنى مستوى منذ نهاية عام 2023. تقلّص الفائض التجاري الكلي للاتحاد إلى 1.8 مليار يورو بعدما كان يسجل 12.7 مليار يورو .ويضيف: "هذا الوضع يحتم على دول أوروبا اللجوء أولاً إلى تعزيز تجارتها مع دول آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام والهند.. كما أن هناك فرصة مواتية لتعويض السوق الأميركية بأسواق دول أفريقيا وأميركا اللاتينية.. كما على أوروبا زيادة الاستثمارات في أسواق بديلة مثل الصين ودول العالم الثالث".
ويستطرد القاسم: "فيما يخص الرسوم الأميركية على البضائع الأوروبية فما زالت هناك الكثير من النقاط التي لم تحسم بعد، ويمكن لأوروبا التوصل لاتفاقات بشأنها بالشروط الأوروبية"، منبهاً إلى أن "يجب المحافظة على سعر اليورو منخفضاً كي تستطيع المجموعة المحافظة على قوة صادرات الشركات الأوروبية باعتبارها باعتبارها المحرك للنمو في القارة".
تباطؤ
وكانت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، قد ذكرت أن اقتصاد منطقة اليورو من المرجح أن يشهد تباطؤا في النمو هذا الربع، مع بقاء علامات الاستفهام حول التجارة العالمية على الرغم من الاتفاقيات الأخيرة مع الولايات المتحدة التي قللت من حالة عدم اليقين.
وفي حديثها في جنيف، أشارت إلى أن التعرفات الجمركية البالغة 15 بالمئة المطبقة الآن على معظم السلع الأوروبية أعلى قليلا من المستوى الذي افترضه البنك المركزي الأوروبي في يونيو، لكنها "أقل كثيرا" من السيناريو الشديد الذي خطط له أيضا، وفق بلومبيرغ.
وبحسب رئيسة البنك المركزي الأوروبي، فقد خففت اتفاقيات التجارة الأخيرة من حالة عدم اليقين العالمية، لكنها لم تُبددها تماماً، والتي لا تزال قائمةً بسبب بيئة السياسات غير المتوقعة. وأضافت: "يستمر عدم اليقين في ظل غموض التعرفات الجمركية الخاصة بقطاعات معينة على الأدوية وأشباه الموصلات".
هذه التعليقات هي الأولى للاغارد منذ إبرام الاتحاد الأوروبي اتفاقه مع الرئيس دونالد ترامب. ومن المتوقع أن يُبقي مسؤولو البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة على الودائع عند 2 بالمئة عند اجتماعهم المُستأنف في سبتمبر بعد عطلتهم الصيفية، مُمددين بذلك فترة توقف بدأت الشهر الماضي بعد حملة تخفيضات استمرت عاماً.
ويرى معظم صانعي السياسات أن أسعار الفائدة في وضع جيد، عند مستوى لا يُقيّد النشاط الاقتصادي ولا يدعمه. مع ذلك، أشار البعض إلى أنه لا ينبغي استبعاد المزيد من التخفيضات، بحسب بلومبيرغ.
صعوبات
من بروكسل، يؤكد خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لدى حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن دول الاتحاد الأوروبي تواجه صعوبات متزايدة في تعزيز تبادلاتها التجارية مع العديد من الدول، وخاصة مع دول الجوار، مشيراً إلى أن محاولات أوروبا في هذا السياق لم تحقق النتائج المرجوة، رغم إطلاق عدة مبادرات منذ عقود.
ويوضح أن هذه الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقاً لم تمكن الاتحاد الأوروبي من منافسة الصين التي اجتاحت بضائعها العديد من الأسواق بشكل واسع.
ويضيف: "هذا الإخفاق يعكس محدودية سياسة التنمية الأوروبية، إذ أضاع الاتحاد الأوروبي فرصة حقيقية لزيادة نفوذه التجاري والاقتصادي ومنافسة الصين، سواء في المنطقة العربية أو في القارة الأفريقية"، مشيراً إلى أن اتفاقيات التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول أفريقيا والكاريبي والباسفيك لم تحقق بدورها الأهداف المرجوة، ولم تساعد أوروبا على اختراق الأسواق الأفريقية أو السيطرة عليها.
وحول المنافسة مع الصين، يوضح بركات أن بكين سبقت أوروبا بخطوات طويلة عبر مبادرة الحزام والطريق، حيث استثمرت مبالغ ضخمة تقدّر في البنى التحتية ومشاريع التنمية لتعزيز نفوذها التجاري والاقتصادي. وفي المقابل، حاول الاتحاد الأوروبي التعويض بإطلاق خطة اقتصادية لتعزيز علاقاته مع الدول الأخرى (..) غير أن هذه البرامج الأوروبية متاخرة نسبياً مقارنةً بالاستراتيجية الصينية.
كما يشير إلى أن الصين نجحت في ترسيخ وجودها في أفريقيا اقتصادياً عبر مبادلات تجارية واسعة، في حين تراجعت بعض القوى الأوروبية نتيجة تدهور علاقاتها السياسية مع دول أفريقية، كما حدث مع فرنسا، مؤكداً أن هذه التطورات الجيوسياسية أثرت سلباً على حجم المبادلات التجارية الأوروبية في القارة.
0 تعليق