رحلة سياحية في بنسلفانيا للتعرف على ثقافة مجتمع "الأميش" الفريد - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تشتهر ولاية بنسلفانيا الأميركية باحتضانها لمجتمع فريد من نوعه يجسد العودة إلى بساطة الحياة، حيث يعيش بها مجتمع "الأميش" التقليدي في عالم يبدو وكأنه توقف فيه الزمن، متجاهلا التكنولوجيا الحديثة ومحافظا على عاداته وتقاليده القديمة.

زيارة قرى "الأميش" ليست مجرد رحلة سياحية عادية، بل فرصة للتعمق في ثقافة مختلفة تماما، حيث يرى السياح الخيول تجر العربات والمزارع التقليدية تتناغم مع الطبيعة، وتسير الحياة بوتيرة هادئة بعيدة عن صخب العالم الخارجي.

أقدم وأكبر مجتمع "أميش"

ومع غزو الهواتف الذكية مختلف أنحاء العالم، إلا أن مجتمع "الأميش" في مقاطعة "لانكستر كانتري" يقاوم بشجاعة، وتمتاز هذه المقاطعة بولاية بنسلفانيا الأميركية بتلالها الخضراء ومزارعها الخلابة، وتعتبر موطنا لأقدم وأكبر مجتمع "أميش" في الولايات المتحدة الأميركية، وقد تأسس هذا المجتمع في الفترة بين 1729-1730 ويبلغ عدد أعضائه نحو 45 ألف عضو.

ولا يثق هذا المجتمع الديني المسيحي المحافظ بالتقنيات الحديثة، بدءا من السيارات وحتى برامج الدردشة، فضلا عن أن الهواتف الجوالة لا تعتبر هنا جزءا من الحياة اليومية، ولذلك يسهل على السياح الاستغناء عن هواتفهم الجوالة عند زيارة هذا المجتمع بشكل أسهل من عروض التخلص من "السموم الرقمية"، والتي تقدمها بعض مراكز الصحة والعافية.

ومع ذلك يتم حجز المبيت والإفطار عبر الإنترنت، لكن عند الوصول إلى المجتمع يمكن إيقاف الإنترنت، وقد نشأت هذه المجموعة حول الأب المؤسس "جاكوب آمان" من الحركة المعمدانية الراديكالية للإصلاح، لكنها انفصلت في عام 1693 عن الفرع الرئيسي للمعمدانيين المينونايت، الذين لم يكونوا "صارمين بما فيه الكفاية" بالنسبة للمواطن الألماني السويسري.

Lancaster, Pennsylvania, USA - JULY 23rd 2016 - Photo showing an Amish family wearing traditional clothes in Lancaster, PA
القيود المفروضة على مجتمع "الأميش" الذي يعيش بولاية بنسلفانيا الأميركية تشجعهم على الإبداع (شترستوك)

"النظام" لدى مجتمع "الأميش"

ومن هذه التعليمات نشأ "النظام"، وهو عبارة عن مجموعة من القواعد السلوكية معظمها غير مكتوب، ومستمدة من الكتاب المقدس، المعمودية الطوعية للبالغين واتباع نمط حياة متواضع مع الانفصال بوعي عن مجتمع الأغلبية السائد.

إعلان

ومع تعرض مجتمع "الأميش" للاضطهاد في وسط أوروبا فر أعضاء هذا المجتمع إلى ولاية بنسلفانيا في أوائل القرن الثامن عشر، ولا يزال جزء كبير منهم -نحو 90 ألف نسمة-، يعيشون في بنسلفانيا، ويبلغ العدد الإجمالي لهم في أميركا الشمالية نحو 4 أضعاف هذا الرقم.

"الأميش".. تياران رئيسيان

ومع ذلك فإنهم ليسوا جماعة متجانسة، ويوجد لديهم تياران رئيسيان على الأقل، أولهما مجتمع "الأميش" حسب "النظام الجديد" المعتدل، والذين يدمجون العناصر الحديثة في حياتهم اليومية، في مقابل مجتمع "الأميش" حسب "النظام القديم"، والذين يمتازون بأنهم أكثر محافظة والتزاما بالقواعد، حيث يرفضون استعمال الكهرباء بدرجة كبيرة، ويتحدثون بلغة "بنسلفانيا الهولندية"، وهي لغة مستمدة من لهجة شرق ولاية بالاتينات الألمانية.

وهناك مشكلة صغيرة واجهت أحد السياح في طريقه إلى "غوردونفيل"، حيث يقيم هناك لمدة 3 ليالٍ، نظرا لأن هاتفه الذكي كان مغلقا، وكان من الصعب عليه تحديد موقع المسكن في هذه المتاهة من الطرق الريفية، لكنه تمكن من حل هذه المشكلة من خلال الاعتماد على نظام الملاحة في السيارة المستأجرة.

وعندما وصل السائح إلى مكان الإقامة سألته "آنا ريهل" بلهجة ألمانية عامية قديمة تكاد تكون مفهومة، ولكن بعد ذلك واصلت الحديث باللغة الإنجليزية، وأوضحت أن عائلتها تمتلك مزرعة "بيكون هولو فارم" في غوردونفيل منذ 7 أجيال.

AMISH PENNSYLVANIA, USA - SEPTEMBER 16, 2017: Family with many children in Amish Country in Pennsylvania, USA
فر أعضاء مجتمع "الأميش" إلى ولاية بنسلفانيا في أوائل القرن الثامن عشر مع تعرضهم للاضطهاد في وسط أوروبا (شترستوك)

تنازلات خاصة للضيوف

وحسب قواعد "النظام" فإن المنزل الخاص بصاحبة النزل ليس متصلا بالكهرباء، إلا أنها تسمح لضيوفها ببعض التنازلات، حيث يتم تشغيل الإضاءة في كوخ العطلات، بالإضافة إلى توافر ماكينة قهوة في المطبخ ومروحة في غرفة النوم ذات الألواح الخشبية، لكنها تشتمل على أغطية مخيطة يدويا، كما يوجد في النزل أيضا غسالة ملابس ومُجمّد.

ودائما ما يعجب السياح بمجتمع "الأميش"، فهم لا يعيشون خارج حدود الزمان والمكان، وترتدي الأم "ريهل" فستانا بسيطا يصل إلى ربلة الساق، ودائما ما يظهر مئزر فوق هذا الفستان، كما ترتدي قبعة صغيرة بيضاء فوق كعكة شعرها، ويمتاز زوجها "بن" بلحية خفيفة وقبعة من القش وبنطال أسود بحمالات، وبدلا من السيارات الحديثة تعتمد هذه الأسرة على عربات تجرها الخيول أو دراجات قدم مزودة بسلال على المقود.

وتتوافق هذه الطقوس مع الاعتقاد السائد من الناحية النظرية فقط، ولكن عندما يتطلب الأمر إنجازا سريعا، فإنه يتم الاستعانة بالجيران من "الإنجليز"، كما يُطلق على جميع غير المعمدانيين، لأداء الخدمات المتعلقة بالقيادة.

القيود تشجع على الإبداع

ولا يتجنب مجتمع "الأميش" الابتكارات بشكل عام، كما أنهم ليسهوا جهلاء بالتكنولوجيا، فالقيود المفروضة عليهم تشجعهم على الإبداع، حيث تسمح لهم قواعد "النظام" بالالتفاف عليها بوضوح، حيث يقوم المعلم "آرون بلانك" بتعديل الآلات الزراعية الحديثة بحيث يمكن للخيول أن تجرها، كما يمكن الاعتماد على بطارية الأدوات لتشغيل لمبات الإضاءة في الغرف.

ومع ذلك ترفض عائلة "ريهل" تقبل تطورات الاتصالات الجوالة، فعلى الرغم من وصول إشارة الاتصالات الجوالة إلى المزرعة، إلا أنهم لا يملكون هواتف جوالة، ولكن يتوافر لديهم شبكة اتصالات أرضية جوالة، ولكن السياح يمكنهم استعمال هواتفهم الذكية، كما يمكن استعمال مفاتيح الإضاءة.

إعلان

وعندما أخرج السائح هاتفه الجوال من الحقيبة ظهرت على الشاشة شرطتان لاستقبال شبكة الاتصالات الجوالة، وهو ما دفعه إلى التخلي عنه ووضعه في خزانة المطبخ، وعندئذ شعر بارتياح غريب، وظهر تساؤل حول ما يمكن فعله في هذه الأوقات بدون هاتف جوال؟

وبعد فترة صعد السائح إلى سيارة الجيب المستأجرة وانطلق في رحلة سفاري في المنطقة، وتعلم خلال هذه الجولة من الخطأ السابق واعتمد على خريطة لمقاطعة "لانكستر كانتري"، وقد تم تصنيف عشرات المزارع في مجتمع "الأميش" كمعالم سياحية، بما في ذلك مزرعة "جيسي" و"آنا روث لاب".

وتدعو العائلة إلى مزرعتها الطاحونة القديمة "أولد ويندميل فارم" الواقعة في "رونكس" للقيام بجولة بعربة القش، وللتدرب على حلب الأبقار وإرضاع العجول بالزجاجة، وتعتبر هذه الجولات ضمن البرنامج السياحي في المنطقة، ولكنها تسمح للسياح بالتحاور بشكل أفضل مع هؤلاء المتدينين المتحفظين.

Three young Amish men in open buggy going down country road in rural Pennsylvania.
يعيش مجتمع "الأميش" التقليدي بولاية بنسلفانيا في عالم يبدو وكأنه توقف فيه الزمن ليحافظ على عاداته وتقاليده (شترستوك)

مرحلة "الرومسبرينغا"

وتشتكي "آنا روث لاب" من أن هذه الهواتف الجوالة "خطيرة"، فخلال مرحلة "الرومسبرينغا"، وهي الفترة، التي يخرج فيها المراهقون من سيطرة الوالدين دون أن يكونوا ملزمين باتباع قواعد الكنيسة بعد لعدم تعميدهم، قام حتى أبناؤها المراهقون بشراء هواتف جوالة.

وأضافت "آنا روث لاب" محذرةً "أنت تصبح ما تراه"، وقامت على الفور بمصادرة أول هاتف جوال اشتراه أبناؤها، ولكن سرعان ما قاموا بشراء هاتف جديد، وتنهدت "آنا روث لاب" وهي تنظر إلى السماء وقالت: "لا يسعنا إلا التعليم والوعظ".

ونظرا لحاجتهم إلى دخل إضافي يمتلك العديد من أفراد مجتمع "الأميش" أعمالا تجارية إلى جانب مزارعهم، وبالتالي يتشابه مفهومهم مع مبدأ "قضاء العطلة في المزرعة" الشهير، ويُسمح لهم بالاعتماد على أسلوب التسويق الحديث بطريقة غير مباشرة.

وغالبا ما يكون أصدقاؤهم وشركاتهم من "الإنجليز" – أي من غير أفراد مجتمع "الأميش" -، هم من يساعدونهم، ولذلك يمكن العثور على منزل عطلات "ريهل" على الإنترنت، كما تمتلك "آنا روث لاب" مدونة عن المزرعة، وقامت عائلة "بلانك" بإنشاء موقع إلكتروني بسيط على الإنترنت، وتروج الجارة "ليا روث ستولتزفوس" لمنتجات العناية بالصحة والعافية على فيسبوك.

أليس هذا تناقضا مع قواعد "النظام"؟ ولكن عندما عاد السائح إلى الكوخ رغب في إلقاء نظرة سريعة على تطبيقاته، غير أنه قبل أن يصل إلى خزانة المطبخ تراجع عن قراره، فالامتناع الرقمي يتطلب انضباطا، حتى وإن كانت الظروف مثالية كما هو الحال في مقاطعة "لانكستر كانتري"، وبعد ذلك أخذ نفسا عميقا وجلس في الشرفة لمشاهدة غروب الشمس خلف صوامع الحبوب.

وفي اليوم التالي كان هناك موعد مع "ستيف نولت"، وهو أستاذ في "دراسات المعمدانيين والورع" في كلية إليزابيثتاون بمقاطعة "لانكستر كانتري"، والذي أوضح أنه بإمكان كل عضو في أي منطقة كنسية مستقلة أن يقترح تقنيات جديدة، وبعد فترة تجريبية عملية، يصوت المجتمع بصفة نهائية على اعتمادها، وفي النهاية، يمتلك أسقف المنطقة حق النقض "الفيتو".

وأشار "ستيف نولت" إلى أن المعيار الحاسم هو "تخفيف آثار التكنولوجيا على التفاعل البشري والتنظيم الاجتماعي"، وبذلك يثير مجتمع "الأميش" أسئلة مهمة للعالم الخارجي حول الحتمية التكنولوجية: هل يمكن للإنسان أن يروض التكنولوجيا على الإطلاق، أم أنها هي التي تتحكم في مصيرنا؟

حتى أن مجتمع "الأميش" نفسه يصارع من أجل إيجاد إجابة، فالسيارات تعزل المؤمنين عن بعضهم البعض مكانيا واجتماعيا، وهي مرفوضة مثل أجهزة التلفاز، التي تنشر تأثيرات دنيوية سلبية، ورغم أن الهواتف الذكية تنشر هذه التأثيرات أيضا، فإنها في الوقت نفسه تخدم التواصل، وهو أمر مرغوب فيه.

إعلان

ويهز الأب "بلانك" من جوردونفيل كتفيه، فهو لا يسمح لابنه البالغ من العمر 20 عاما باستعمال الجوال داخل المنزل، ولكنه يتسامح معه خارج المنزل كوسيلة تعليمية، وأضاف قائلا: "نحن لسنا قديسين، بل أشخاص عاديون مثلكم تماما".

ومن المدهش أن السائح في اليوم الثاني لم يفتقد هاتفه إلا لإجراء المكالمات الهاتفية، ويبدو أن التكنولوجيا اختيارية، ولكن ربما يكون ذلك صحيحا في الإجازة فقط، من يحتاج إلى هاتف ذكي للتسلية عندما يكون هناك ما هو جديد لاكتشافه؟ في المقابل، يبدو أن الامتناع عن التكنولوجيا في الحياة اليومية أمر غير واقعي، خصوصا عندما تفشل هذه "الحمية الرقمية المطلقة" في مجتمع "الأميش" نفسه.

وبعد ذلك ذهب السائح إلى خزانة المطبخ، وأخرج هاتفه الذكي، وتعهد قبل المغادرة أن يتيح لنفسه فرصة "للتخلص من السموم الرقمية" في حياته اليومية من حين إلى آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق