الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي.. برامج خجولة بمواجهة جرائم عابرة للقارات - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بين الشواطئ الخلابة والمعابد التاريخية، تخفي بعض الوجهات السياحية في آسيا وأفريقيا جانبًا مظلمًا قلّما يُروى، يقوم على استغلال الأطفال في ما يعرف بـ"السياحة الجنسية".

تتخفى هذه الظاهرة خلف الرفاهية، وتزدهر في ظل تواطؤ صامت، وتغذيها شبكات محلية ودولية منظمة، وسط غياب الرقابة وضعف إنفاذ القانون، لتطرح سؤالا حول كيف يمكن حماية الطفولة والفئات الضعيفة في مواجهة الانتهاكات والاتجار بالبشر.

Two backlit girls climbing a metal fence with the orange and yellow fire-colored sky in the background. Concept of relax, sisters, refugee, apocalypse, sadness, poverty, paradise, idyllic, darkness.
ثغرات القانون وتفشي الفقر تمكن شبكات محلية ودولية من تجنيد الأطفال (غيتي)

واقع الاستغلال الجنسي للأطفال

ووفقًا لتقرير وزارة الخارجية الأميركية الصادر عام 2024 تحت عنوان "تقرير الاتجار بالبشر"، فإن الاستغلال الجنسي للأطفال في سياق السياحة بدأ يشكّل خطرًا متزايدًا، خاصة في المناطق السياحية ذات الطابع الشعبي، التي تُعدّ أقل رقابة من الجهات الرسمية.

وأشار التقرير إلى بعض أنماط الاتجار بالبشر في جنوب شرق آسيا وعدة دول أفريقية دون الكشف عن مواقع محددة، ولكنها تندرج غالبًا ضمن مناطق غير خاضعة لتطبيق صارم للقانون، حيث تتفاعل شبكات محلية مع أخرى أجنبية، وتستفيد من البيئة المتراخية والمجتمع المتسامح أحيانًا مع هذا النوع من الجرائم.

وذكر التقرير أن قضايا كثيرة سُجلت ضد مجهولين، رغم أن الضحايا قدموا إفادات واضحة عن هوية المعتدين، وهو ما يدل على وجود خلل في آليات الحماية الجنائية.

ويسلط تقرير صادر عن وزارة العمل الأميركية بعنوان "النتائج المتعلقة بأسوأ أشكال عمل الأطفال في دول أفريقية على على ضعف الرقابة الحكومية، وانتشار الفساد، وغياب منظومات حماية فعّالة، مما يعرّض آلاف الأطفال، خاصة في المناطق الداخلية، لخطر الإتجار والاستغلال عند انتقالهم للعمل في المناطق السياحية الساحلية.

The concept of human trafficking.
ضحايا الاتجار في منطقة جنوب شرق آسيا أكثرهم من الأطفال (غيتي إيميجز)

ثغرات قانونية

على الصعيد الدولي، كشف تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، تحت عنوان "التقرير العالمي حول الاتجار بالأشخاص لعام 2024″، أن أكثر من 60% من ضحايا الاتجار في منطقة جنوب شرق آسيا هم من الأطفال، في دلالة مقلقة على استفحال الخطر الذي يتهددهم.

إعلان

وأشار التقرير إلى أن السياحة تحوّلت من نشاط اقتصادي إلى قناة تستغلها شبكات إجرامية عابرة للحدود لتجنيد وتهريب الضحايا، لا سيما من الفئات الضعيفة والمهمشة.

ويُبرز التقرير أن الثغرات القانونية بين الدول، وغياب التنسيق القضائي، وانعدام نصوص واضحة تجرّم السياحة الجنسية حتى في صيغها المموهة، كلها عوامل تُسهّل الإفلات من العقاب وتُعزز من تفشي هذه الجريمة.

إحدى النتائج الخطيرة التي يسلط عليها التقرير الضوء، هي أن العديد من التحقيقات لا تصل إلى مرحلة المحاكمة أو تنتهي بتبرئة الجناة في وقت مبكر.

ويذكر التقرير أن "السياحة الجنسية"، رغم كونها مصطلحًا معروفًا، لا تزال غائبة عن التشريعات في عدة دول آسيوية، أو يتم تناولها بلغة قانونية فضفاضة تتيح للجناة التحايل، مثل الادعاء بأن العلاقة كانت "برضا الطرفين".

ويضيف التقرير أن من أبرز الإشكالات التي تم توثيقها أيضًا، أن بعض السياح المتورطين في هذه الجرائم لا يُواجهون عقوبات قانونية حقيقية بسبب عدم وجود اتفاقيات تسليم أو تعاون قضائي بين الدول التي قدم منها السواح والدول المستقبِلة.

ومما يزيد من تعقيد الوضع، حسب نفس التقرير، هو أن الجهات المستفيدة من هذه الأنشطة لا تقتصر على الأفراد، بل تشمل مؤسسات وشركات تنشط في قطاع الضيافة، بل وبعض المنظمات التطوعية الزائفة التي تستغل العمل الخيري كوسيلة لإخفاء أنشطتها.

نتيجة لهذه الأسباب مجتمعة، يخلص التقرير إلى أن السياحة لا تمثل مجرد نشاط اقتصادي بل قد تكون غطاءً لما يمكن وصفه بجريمة متكاملة الأركان، يديرها أشخاص يعرفون كيف يختبئون في ثغرات القانون، وكيف يستغلون فقر المجتمعات، وصمت السلطات، وعجز النظام الدولي.

السياحة كغطاء لاستغلال الأطفال جنسيا

وحذر تقرير مشترك صدر عن منظمة "يونيسيف" ومنظمة السياحة العالمية بعنوان "حماية الطفل في السياحة.. التحديات والتقدم"، من القصور في برامج التوعية المجتمعية، خاصة في المناطق النامية، حيث يتم خداع الأسر الفقيرة لقبول غرباء أو إرسال أطفالهم لأعمال مشبوهة مقابل وعود زائفة.

ودعا التقرير إلى دمج مبادئ حماية حقوق الطفل في المناهج الدراسية وبرامج تدريب العاملين في القطاع السياحي، مثل موظفي الفنادق والمرشدين السياحيين وأصحاب وكالات السفر، الذين غالبًا ما يكونون في احتكاك مباشر مع الجناة.

بدوره، انتقد "التحالف العالمي ضد الاتجار بالأطفال" في تقرير صادر في يونيو/حزيران 2024 بعنوان "السياحة كبوابة للاتجار بالأطفال.. فشل السياسات في جنوب شرق آسيا"، تعاطي الحكومات مع الظاهرة، واصفا إياه بالسطحي، ومشيرا إلى غياب آليات فعالة لتوثيق الانتهاكات وحماية الضحايا.

أما منظمة العمل الدولية، فقد نشرت تقريرًا تحليليًا في أواخر 2023 بعنوان "الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال.. الاتجاهات والاستجابات"، أكدت فيه أن السياحة الجنسية لم تعد مقتصرة على الأماكن الواقعية، بل تمددت إلى الفضاء الرقمي، حيث تُستخدم تطبيقات غير خاضعة للرقابة لتسهيل عمليات الاستدراج.

ودعت المنظمة إلى إنشاء وحدات شرطة متخصصة في السياحة الأخلاقية وتعزيز التعاون مع الإنتربول لملاحقة الجناة خارج حدود بلدانهم.

إعلان

كما كشف تقرير "الاتجار بالبشر 2024: السياحة واستغلال الأطفال"، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن أكثر من 72% من ضحايا الاستغلال الجنسي السياحي من الأطفال تم استدراجهم عبر وسطاء محليين، بعضهم يعمل بتواطؤ مع مؤسسات رسمية أو شركات سياحية خاصة.

trafficking concept, child was a victim of human trafficking, human rights violations, missing kidnapped
ضعف التمويل والتدريب المخصص للسلطات القضائية في آسيا يسهم في تفاقم الاتجار بالأطفال (شترستوك)

محاولات التدارك

رغم الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير الدولية، بدأت بعض الدول اتخاذ خطوات تشريعية صارمة، مثل كينيا التي أقرت في 2023 قانونًا يُجرّم صراحة "السياحة ذات الطابع الجنسي"، ويُلزم كل مقدمي الخدمات السياحية بالإبلاغ عن أي نشاط مشبوه، تحت طائلة اعتبارهم شركاء في الجريمة.

من جهته، أطلق الاتحاد الأوروبي في مارس/آذار 2024 مبادرة باسم "السياحة الآمنة للجميع" بالتعاون مع الأمم المتحدة، وتهدف إلى فرض بروتوكولات إلزامية على الدول الأوروبية لمساءلة مواطنيها المتورطين في انتهاكات جنسية خارج حدود بلادهم.

لكن رغم تلك المبادرات، لا تزال التحديات قائمة، في ظل افتقار بعض الأنظمة السياسية للإرادة، واستشراء الفساد في قطاعات الأمن والقضاء، مما يجعل المعركة ضد السياحة الجنسية طويلة الأمد ومعقدة.

وبرزت كمبوديا خلال السنوات الأخيرة بوصفها نموذجًا لبلدٍ نامٍ قرّر خوض معركة جدّية ضد استغلال الأطفال في السياحة الجنسية، وهي جريمة تفشّت في بعض مدنه منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة في المناطق السياحية ذات الرقابة المحدودة.

لكن هذا التحول لم يكن تلقائيًا، بل جاء نتيجة جهود منسقة تبنّتها الحكومة، بالتعاون مع منظمات محلية ودولية، ضمن إستراتيجية وطنية متكاملة تُعدّ اليوم مرجعًا يُحتذى به في مجال مكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال.

ووفقًا لتقرير أصدرته منظمة "إيكبات الدولية" عام 2023 بعنوان "إنهاء الاستغلال الجنسي للأطفال في السفر والسياحة: تقرير تقدم كمبوديا"، فإن البلاد بدأت منذ عام 2016 تنفيذ خطة وطنية متعددة الأركان، شملت التوعية المجتمعية، وإصلاح القوانين، والملاحقة القضائية، وحماية الضحايا، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي.

وأشار التقرير إلى أن هذه الجهود أدت إلى تراجع القضايا المُبلغ عنها بنسبة 38% بين عامي 2017 و2022، رغم استمرار تحديات كبرى على الأرض.

وأفاد تقرير صادر عن مكتب يونيسيف كمبوديا عام 2022، أن حملات التوعية ركّزت على شرح مفهوم الاستغلال الجنسي للأطفال، وأهمية الإبلاغ عن السلوكيات المشبوهة، وتم إنشاء خط ساخن باللغتين الخميرية والإنجليزية لتلقي البلاغات بسرية تامة، بالتنسيق مع الشرطة السياحية.

أما على المستوى القانوني، فقد أجرت الحكومة مراجعة شاملة لقانون حماية الطفل، تضمنت تعديلات تجرّم استغلال الأطفال حتى في حال وقوع الجريمة خارج حدود الدولة، مما يتيح محاكمة الجناة الكمبوديين العائدين من الخارج.

كما وقّعت كمبوديا اتفاقيات تعاون قضائي مع عدد من الدول الأوروبية، بينها فرنسا وهولندا، لتسهيل تبادل المعلومات وتسليم المتورطين في هذه الجرائم. وتُفيد بيانات صادرة عن وزارة العدل الكمبودية عام 2023 بمحاكمة 74 أجنبيًا في قضايا تتعلق بسياحة الاستغلال الجنسي للأطفال بين عامي 2018 و2023، وهو ما لم يكن معتادًا قبل سنوات قليلة.

The child captured the iron cage with sadness and despair. The concept of stopping violence against children and human trafficking.
يحتمي بعض المتورطين في استغلال الأطفال جنسيا بنفوذ قبلي أو سياسي يمنع محاسبتهم (شترستوك)

دور المجتمع المدني في نجاح تجربة كمبوديا

وفي موازاة الدور الحكومي، أسهمت منظمات المجتمع المدني بدور محوري، خصوصًا منظمة "آبل كمبوديا – العمل من أجل الأطفال"، التي تقوم برصد سلوكيات السياح المشتبه فيهم، وتقديم تدريبات لأجهزة الشرطة والقضاء حول كيفية التعامل مع جرائم الاعتداء على الأطفال.

إعلان

ويشير تقريرها السنوي لعام 2023 إلى أنها وفّرت الدعم النفسي والقانوني لأكثر من 600 طفل ضحية منذ عام 2019، ونجحت في إعادة دمجهم في مؤسسات التعليم والحياة المجتمعية تدريجيًا.

وبحسب الدراسة العالمية التي أصدرها مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة سنة 2024 بعنوان "الاستغلال الجنسي للأطفال في السياحة والسفر: تحليل عالمي"، فإن الدول التي تسجّل تقدمًا فعليًا هي تلك التي تدمج بين تطبيق القوانين الصارمة، والانفتاح على المجتمع المدني، والتعاون القضائي عبر الحدود، إلى جانب احترام التزاماتها الدولية في مجال حقوق الطفل.

على الرغم من محدودية الموارد، استطاعت كمبوديا كسر حلقة الصمت، وتقديم مثال عملي على أن المواجهة الناجحة لهذه الجرائم لا تعتمد فقط على الإمكانات الاقتصادية، بل على توافر إرادة سياسية واضحة، وتفاعل شعبي واعٍ، وتنسيق فعّال مع الشركاء الدوليين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق