"خطة الجنرالات" التي اغتالوا أنس الشريف بسببها - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بالقرب من مستشفى وفي خيمة صغيرة للصحفيين يُقتل طاقم صحفي كامل بدم بارد وعن سبق إصرار وتعمد من قبل الاحتلال الإسرائيلي لتغرق سترات كتبت عليها "صحافة" بخط واضح بدم فرسان الحقيقة، وفي هذا الاستهداف قتل أحد أشهر الصحفيين في قطاع غزة، أنس الشريف، وزميله محمد قريقع.

لقد وصل الاحتلال إلى قاع الانتهاك الصارخ للقانون الدولي الإنساني وحقوق الصحافة، وضرب بعرض الحائط مجددا كل المواثيق التي تحمي العاملين في مجال الإعلام.

اغتالت دولة الاحتلال صحفيا شابا تجاوز التقليدية في نقل الأخبار إلى الالتحام الطبيعي بشعبه وأهله، وتميز بالالتزام المهني والاستثنائي، قُصف بيته واستُشهد والده، وتعرض للتهديد والخوف والجوع والنزوح، ولكنه حافظ على مصداقيته وشجاعته ونشاطه، لم يخشَ الموت والضغوط، كان أنس جزءا من واقع غزة ورمزا من رموزها، وليس مجرد ناقل للحدث.

لقد كان أنس من طبيعة المراسلين الذين يعيشون الحدث ويصبحون جزءا من المشهد، ويتعرضون لما يتعرض له الناس، ويتحملون المسؤولية، ويخوضون المخاطر.

ولذلك أصبح صوت المتعرضين للإبادة الجماعية، وكان له أثر عظيم أدركته دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولهذا سعت لإسكاته بطرق شتى كان آخرها الاغتيال.

ولكنها لم تدرك أن مثل هؤلاء المراسلين تبدأ لهم حياة جديدة بهذه الطريقة من الإسكات؛ هي حياة الإلهام لأجيال جديدة من الصحفيين الشباب في كل مكان، وفي المجال الأقرب آثار أخرى تتعلق بزيادة الغضب على دولة الاحتلال وملاحقتها، والحث على فعاليات مختلفة تسعى لمحاسبتها.

سياسة ممنهجة لحجب الحقيقة

إن اغتيال دولة الاحتلال الإسرائيلي طاقم قناة الجزيرة في غزة، وعلى رأسهم المراسلان أنس الشريف، ومحمد قريقع، ينتمي لإستراتيجية ممنهجة لحجب الحقيقة ومنع رواية المظلومين من الخروج للعلن، وجعل الفضاء الإعلامي خاليا إلا من رواية مضللة لرئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو وائتلافه الحكومي، الذي يريد تبرير جرائمه، وإنهاء أي مصدر إزعاج لهذه الرواية.

إعلان

قتل الاحتلال الإسرائيلي في غزة وحدها أكثر من 237 صحفيا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستهدف بشكل مباشر كل رموز المجال الإعلامي وأيقوناته ومقراته، في محاولة لمنع وصول تأثيرهم في الوعي العالمي والإقليمي.

وقد تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع أنس الشريف، ومن قبله إسماعيل الغول، ووائل الدحدوح، وشيرين أبوعاقلة كأيقونات للإعلام في غزة والضفة، لا بد أن يتم إعاقتها سواء من خلال التهديد، أو الاستهداف المباشر.

تهديد متواصل وقمع للحقيقة

بدأ التهديد لأنس مبكرا ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، عندما كان الصحفي أنس الشريف يوثق استهداف الاحتلال الإسرائيلي، مراكز النازحين، ومدارس الأونروا، والمستشفيات في غزة وشمال غزة، وينقل القصف المتعمد على المناطق المكتظة بالمدنيين، قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بقصف منزل عائلة أنس، ما أدى إلى استشهاد والده.

في يوليو/تموز 2024، اغتال الاحتلال الإسرائيلي رفيق أنس مراسل الجزيرة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، ولكن أنس واصل عمله بكل شجاعة ومهنية، وبقي صوتا صادحا بالحقيقة وناقلا لها كما هي.

بعد ذلك لجأ الاحتلال إلى حملة تحريض واسعة على أنس أشرفت عليها لجان استخبارية وإعلامية، وهو ما أطلق عليه أنس نفسه "محاولات إسكاته"، حيث وصف أنس الشريف اتهامات إسرائيل له بـ"الإرهاب"، بـ"التحريضية" و"محاولة إسكاتي، في مسعى لوقف تغطيتي عبر شاشة الجزيرة، ومواقع التواصل الاجتماعي".

وفي تحدٍ واضح لسياسة الاحتلال وشجاعة مشهودة، كتب أنس حينها "رسالتي واضحة لن أصمت. لن أتوقف. صوتي سيبقى شاهدا على كل جريمة، حتى تتوقف هذه الحرب في أقرب وقت".

ولم يكن الأمر خافيا على الجهات المعنية أيضا، فقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين – وهي منظمة دولية غير حكومية وغير ربحية، مقرها مدينة نيويورك، في أواخر يوليو/تموز 2025- بيانا أعربت فيه عن قلقها إزاء ما وصفته بـ"تهديدات مباشرة وتحريض علني" ضد أنس الشريف، عقب تداول مقاطع وتصريحات على منصات تواصل اجتماعي "تشير إليه بالاسم، وتشكك في عمله الصحفي".

وحتى اللحظات الأخيرة من استشهاده ذكر أكثر من صديق له أن أنس كان على علم بجدية التهديدات الإسرائيلية، لكنه بقي محافظا على واجبه تجاه قضيته وشعبه، ودوره في نقل الحقيقة.

الاستهداف وارتباطه بعمليات كبرى

حاول الاحتلال طمس الحقيقة من خلال استخدام التهديد ضد أنس الشريف ورفاقه، واستخدام التحريض، ونشر الاتهامات الزائفة ضدهم، وقد نشر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تحريضا مباشرا على أنس في أغسطس/آب 2024 مدعيا علاقة أنس بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وأن أنس يمثل مسرحية إعلامية كاذبة لا تمت لسكان غزة بصلة.

وقد كان واضحا أن دور أنس الصحفي المهني يشكل مصدر إزعاج حقيقي وكبير لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي لا تريد أن تخرج الحقيقة إلى الفضاء العام.

إذا ما توقفنا عند توقيت التهديدات الأولى لأنس الشريف في أغسطس/آب 2024، فإننا نجد أنها سبقت عملية "خطة الجنرالات" التي كانت تهدف لإخلاء سكان شمال قطاع غزة، وفرض حصار كامل يمنع مرور الغذاء والمياه والدواء؛ لجعل المقاومة المتبقية في شمال قطاع غزة تستسلم أو تموت جوعا، وذلك وفق مهندس هذه الخطة الجنرال الإسرائيلي غيورا آيلاند.

إعلان

وقد بقي أنس الشريف في شمال قطاع غزة وغطى عملية إجبار آلاف النساء والأطفال على النزوح من شمال قطاع غزة وسط طرق محفوفة بالموت تنفيذا لخطة الجنرالات.

وفي هذا السياق كان واضحا أن الاحتلال الإسرائيلي حاول إخفاء الأهداف الحقيقية لخطة الجنرالات، وقد كشف الأكاديمي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب عيدان لاندو، أن خطة الجنرالات كانت خطة مروعة، وأن جيش الاحتلال كان يتعمد إخفاءها عن المجتمع الدولي، ولذلك قام باستهداف الصحفيين الذين حاولوا توثيق الأحداث.

وحاليا بعد أن أقر المجلس الأمني المصغر لحكومة الاحتلال الإسرائيلي خطة لاحتلال مدينة غزة، فإن دور أنس ورفاقه في تغطية الحقيقة ونقلها للعالم عبر قناة الجزيرة أريد له أن يغيب ويطمس، خاصة مع الدور الكبير الذي تم القيام به من أنس الشريف ومحمد قريقع خلال الأشهر الماضية التي ترافقت فيها حرب التجويع على قطاع غزة مع الضغط العسكري في عمليات عربات جدعون التي فشلت في تحقيق أهدافها.

وقد كان للإعلام دور كبير في فضح الرواية الإسرائيلية ومبرراتها، وكانت الصور والتقارير والمشاهد التي ينقلها هؤلاء المراسلون أقوى بكثير من أن تغطي عليها رواية الاحتلال الإسرائيلي المجرم.

وفي هذا السياق، تساءل الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أفراهام حول توقيت اغتيال أنس الشريف عشية خطط احتلال مدينة غزة، مشيرا إلى أن الجواب واضح. وهو يعني أن الجيش الإسرائيلي يخطط لمشاهد في غزة لا يريد أن تنقل للعالم.

نموذج أنس

لقد اشتهر صحفيون عبر العالم غطوا حروبا وكوارث إنسانية لم يصلوا إلى معشار شجاعة أنس، لقد تمسك برسالة الصحافة المهنية رغم الخطر المحدق وبث التقارير المباشرة من وسط النار، ومن بين شظايا صواريخ طائرات "إف-16".

وقد عاش لحظات فقدان رفاقه، وكان يغطي الأحداث بمهنية عالية والتحام كامل مع البيئة التي كان يمثلها بشكل حقيقي، وليس مجرد ناقل لها، لقد كان ينقل أحداث المجاعة وهو جائع، وأحداث النزوح وهو مقيم في خيمة نزوح، وينقل أخبار الشهداء، وهو ابن الشهيد وصديق الشهداء.

ختاما؛ لقد أوصل أنس رسالته وكتب وصيته بفعله قبل قلمه، ولهذا فإن تضحية أنس هي نموذج لكل الصحفيين الشباب في غزة وفلسطين وخارجها، وهذه البطولة غير المسبوقة في فترة قصيرة من سيرة حياة صحفي تشكل مصدر إلهام لا يمكن إطفاؤه، ولن يزيد اغتيال أنس في الإيمان بهذا النموذج إلا اتساعا وانتشارا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق