هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟ - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في سبتمبر/أيلول عام 2017، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مخاطِبا العالم بلغة غاضبة لم يألفها المسرح الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، مُوجِّها تهديدا صريحا لكوريا الشمالية، قائلا إن الولايات المتحدة "ستدمّر كوريا الشمالية بالكامل إذا واصلت تهديداتها النووية"، ومتحدثا عن الزعيم الكوري الشمالي بلهجة ساخرة، مُطلقا عليه لقب "رجل الصواريخ".

حينها، لم يَبدُ هذا مجرد تصعيد دبلوماسي، بل كأنه إعلان نِيّات عدائية للغاية، وأن تصعيدا تاريخيا يلوح في الأفق. لكن المدهش أن ترامب نفسه عاد بعد أشهر قليلة ليصافح كيم جونغ أون في أول قمة من نوعها بين زعيمين من البلدين، معلنا أنهما "قد وقَعا في الحب" بعد تبادل الرسائل الدبلوماسية، ومشيدا به.

epa07683953 US President Donald J. Trump (L) talks with North Korean leader Kim Jong-un after crossing the Military Demarcation Line into the North's side at the truce village of Panmunjom in the Demilitarized Zone, which separates the two Koreas, 30 June 2019. The US leader arrived in South Korean on 29 June for a two-day visit that will include a meeting with South Korean President Moon Jae-in and a trip to the Demilitarized Zone. EPA-EFE/YONHAP SOUTH KOREA OUT
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يسار) يتحدث مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في 30 يونيو/حزيران 2019 (الأوروبية)

منذ لحظاته الأولى على المسرح السياسي، حرص دونالد ترامب على ألا يبدو مثل أي رئيس أميركي سابق. لم يُخفِ طباعه الغاضبة، بل تبنّاها بفخر، قائلا في مناظرة الحزب الجمهوري عام 2016: "سأقبل بسرور عباءة الغاضب".

وعندما سُئل خلال حملته في 2024 عن كيفية ردّه على حصار صيني لتايوان، قال: "لن أضطر لفعل شيء، لأن [شي جين بينغ] يحترمني ويعلم أنني مجنون تماما"!

بيد أن ما ميّز ترامب لم يكن الغضب فحسب، بل رغبته في أن يُنظر إليه بوصفه زعيما مختلفا واستثنائيا، وغير قابل للتنبؤ، وأنه رجل صفقات، بل ذهب أبعد من ذلك في أحد خطاباته في حملته الأولى عام 2016، حين قال: "يجب أن تكون أمتنا أكثر غموضا وأقل قابلية للتنبؤ".

والآن، بعد أن اختبر العالم سياسات ترامب لوقت ليس بسيطا، يمكن القولُ إن هذا المزيج من الغموض وما تسميه عدد من الصحف الأميركية بـ "افتعال الجنون"، بالإضافة لفوضى التصريحات، وهو ما بات يُمثِّل منهجا تفاوضيا، وطريقةً خاصة لعقد الصفقات، فيما يبدو أنها ليست فوضى شعبوية فحسب، بل في الحقيقة هي أداة تفاوضية عالية المخاطرة من نوع خاص. فما ملامح هذا "المنهج الترامبي"؟ وما فرص استدامة نجاحه؟

إعلان

هندسة اللاعقلانية

ليس من السهل تصنيف سلوك دونالد ترامب التفاوضي ضمن قوالب الدبلوماسية التقليدية، فهو لا يتحدث بلغة المؤسسات، ولا يلتزم بالتسلسل المنهجي الذي يُفضِّله صانعو السياسات، ولا يستخدم القنوات التقليدية في إعلان التصريحات الرسمية.

لكن رغم ما يبدو من عشوائية وتقلّب، سرعان ما يلحظ المراقب تكرارا واضحا في طريقة ترامب في إدارة الملفات الدولية، يُحيل إلى ما يشبه نموذجا تفاوضيا متكاملا، قائما على الصدمة، والتصعيد، والمقايضة.

لا يبدأ ترامب من منتصف الطريق، بل يقذف نفسه مباشرة إلى أقصى مدى، يطلق مطلبا جذريا -مثل قطع العلاقات التجارية نهائيا مع طرف ما، أو الإقدام على ضمّ أرضٍ ما عُنوة إلى بلاده- ثم يدعو بعد ذلك إلى التفاوض من موقع مُتفوق، مصحوبا بتهديدات مبطنة أو صريحة، لا تلبث أن تتحوّل في لحظة إلى رسائل مديح شخصية، أو وعود باتفاقات عظيمة، ثم إنْ لزم الأمر يعود فينفذ تهديدا جزئيا ليؤكد جديته.

هذا النموذج ظهر بوضوح في التعامل مع حلف الناتو. فتح ترامب النار على حلفاء واشنطن الأوروبيين، متهما إياهم بالتقاعس عن تحمل أعباء الدفاع الجماعي، ومهددا بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا لم يُضاعفوا إنفاقهم العسكري.

بدا أداؤه أداء "عدوانيا" و"فوضويا"، لكن المفارقة أن هذا الضغط أسفر لاحقا عن إعلان جماعي لرفع ميزانيات الدفاع في عدد من دول الناتو إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو إنجاز لم تحققه الإدارات السابقة رغم الهدوء والانضباط الدبلوماسي. بعدها عاد ترامب للحديث بلغة الشراكة، مشيدا بالحلف ومؤكدا التزام بلاده بالبند الخامس. بدا وكأنه وضع الحلفاء على حافة الانهيار، ثم أعادهم من الحافة ليقطف الثمرة.

مرة أخرى مع إيران، لكن بنتائج مختلفة حتى الآن، وإن كانت العملية ما زالت تحمل في طيّاتها عوامل انفجارها مرة أخرى، طالب ترامب إيران بالتخلي عن برنامجها للأسلحة النووية، مهددا بعواقب وخيمة إن لم تفعل. ثم دخل في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، معلنا على الملأ أن المفاوضات تسير بشكل واعد، وأنه يريد أن تكون إيران دولة عظيمة. وفي مرحلة معينة، حدد موعدا لانتهاء المفاوضات، وعندما انقضى الموعد دون اتفاق، اتخذ إجراء عسكريا دراماتيكيا.

وفي الحالتين، لم يكن يسعى إلى خلق بيئة تفاوض مستقرة، بل إلى بيئة مرتبكة تمنحه اليد العليا، مستعدا لتفكيك القواعد القديمة، ثم إعادة بنائها عبر صفقات مباشرة. في ملف أوكرانيا مثلا، لوّح ترامب في بداية ولايته الثانية بإمكانية إعادة النظر في الدعم الأميركي لكييف، ما عُدَّ صدمة جيوسياسية في العواصم الغربية، قبل أن يعود ويُشيد بقدرة الحلفاء على الاستجابة والتنسيق.

ما كان لافتا أيضا هو تصعيده مع كندا، والتي سمّى رئيس وزرائها السابق جاستن ترودو بأنه حاكم الولاية رقم 51، والتي صرح ترامب بأنه سيضمها (كندا) للولايات المتحدة. كان هذا التصعيد عاملا في صعود رئيس الوزراء الجديد مارك كارني الذي انتخب في أواخر أبريل/نيسان الماضي على خلفية تعهّده بمواجهة تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحرب تجارية وبضمّ كندا للولايات المتحدة.

إعلان

وبعد فوزه، تعهد بإطلاق "أكبر تحول في الاقتصاد الكندي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية" لبناء دولة "قوية"، في وقت يواجه فيه تاسع أكبر اقتصاد في العالم أزمة غير مسبوقة.

في وقت لاحق، استقبل ترامب كارني في البيت الأبيض، وما بدا تهديدا يمس سيادة كندا في بداية المطاف، تحول إلى سعي لفتح صفحة جديدة يغلب عليها سمة التوتر.

epa12078431 US President Donald Trump (R) and Canadian Prime Minister Mark Carney (L) meet in the Oval Office at the White House in Washington, DC, USA, 06 May 2025. EPA-EFE/FRANCIS CHUNG / POOL
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يمين) ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني يلتقيان في البيت الأبيض 6 مايو/أيار 2025 (الأوروبية)

من أين جاء هذا النموذج؟

لفهم كيف بنى ترامب هذا النموذج التفاوضي لا يكفي تتبّع تصريحاته وقراراته السياسية، بل لا بد من العودة إلى البيئة التي تَشكَّل فيها عقله. فالرجل لم يأتِ من خلفية بيروقراطية ولا خدم في أجهزة الأمن القومي، ولم يتدرّب في أروقة وزارة الخارجية أو على طاولات لجان الكونغرس. جاء ترامب من عالم العقارات، والإعلام، والترفيه، والصفقات، ومن رحم ثقافة رجال الأعمال الطفيليين الذين يعتبرون كلَّ علاقة فرصةً لمقايضة رابحة، وكلَّ خصم قابلا للإرباك أو الترويض.

في كتابه الشهير "فن الصفقة" (The Art of the Deal)، الصادر عام 1987، يوضح ترامب فلسفته بعبارات شديدة التبسيط والوضوح: "أنا أضع أهدافا عالية جدا، ثم أواصل الضغط والضغط والضغط حتى أحصل على ما أريده". وفي مواضع كثيرة من الكتاب، يشير إلى أهمية استخدام الغموض، والمماطلة، والضجيج الإعلامي بوصفها أدوات تفاوض بحد ذاتها، ويقول: "أحاول دائما أن أترك خصمي يفكر: مهلا، ربما يتمكن هذا الرجل فعلا من تنفيذ ما يهدد به".

ولكن قبل أن يكتب ترامب كتابه هذا، ثمة شخصية يُرمز لها بأنها شديدة التأثير في بناء هذا المزيج الإدراكي والسلوكي لدى ترامب وفي صياغة رؤيته للعالم، هو روي كوهن، المحامي المثير للجدل الذي عُرف بشراسته وقدرته على تحويل أي أزمة إلى هجوم مضاد. كان كوهن في شبابه مساعدا للسيناتور الجمهوري الشهير جوزيف مكارثي، خلال حملات التطهير السياسي العنيفة في الخمسينيات، ثم أصبح لاحقا الموجّه السياسي والقانوني لترامب في بداياته.

Attorney Roy M. Cohn poses for a portait in 1964. (Photo courtesy of Library of Congress)
المحامي الأميركي روي كوهن (غيتي)

فبحسب تقرير لصحيفة "بوليتيكو" نُشر عام 2017، بدأ كوهن، منذ عام 1973، في تمثيل عائلة ترامب، بعد أن رفعت وزارة العدل دعوى قضائية ضدهم بتهمة ممارسات تأجير عنصرية في آلاف الشقق التي يملكونها، وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان كوهين بمنزلة المُدبّر الأساسي لمناورات ترامب التي أطلقت مسيرته المهنية، حيث أصبح كوهن بالنسبة لترامب أكثر بكثير من مجرد محاميه.

وفي لحظة حاسمة لترامب، لم تكن هناك شخصية أكثر تأثيرا من كوهن. وبحسب التقرير السابق ذكره، غرس كوهن فيه ثلاث قواعد أساسية:

لا تعتذر أبدا. لا تتراجع أبدا. هاجِم دائما.هذه القواعد تحوّلت في عقل ترامب إلى بوصلة تفاوضية راسخة. فعندما ينتقده الصحفيون، يصفهم بالأعداء. وعندما يتباطأ الحلفاء، يهددهم بالانسحاب. وعندما يتحدى خصومه، يبدأ بتدمير قواعد اللعبة قبل أن يطلب إعادة ترتيبها.

ومن هنا نفهم لماذا يُفضِّل ترامب التفاوض المباشر على القنوات الدبلوماسية، ولماذا يميل إلى تحويل الملفات الدولية إلى عروض شخصية، فالرجل لا يثق بالمؤسسات، بل يثق بحضوره الخاص وقدرته على تحريك المعادلة من خلال المواجهة وطبيعته الشخصية.

حتى في مظهره وسلوكه العلني، يستثمر ترامب في "اللاعقلانية المدروسة". يقول دانيال دريزنر، الأستاذ في جامعة تافتس، إن ترامب "نادرا ما يكون لاعب شطرنج ثلاثي الأبعاد، بل غالبا ما يكون الرجل الذي يأكل القطع". هذا التصوّر، وإن بدا ساخرا، يعبّر عن جوهر ما يفعله ترامب في النظام العالمي الآن؛ تفكيك قواعد اللعبة نهائيا ليعيد هو بناءها، حتى لو أدى ذلك إلى تشكيل لعبة مختلفة تماما.

إعلان

نتائج لا يمكن التنبؤ بها

رغم ثبات النمط التفاوضي لدى ترامب، فإن نتائجه جاءت متفاوتة بشكل صارخ بين ملف وآخر. ففي حين أحرز تقدما تكتيكيا في بعض القضايا، اصطدمت إستراتيجيته بحوائط صلبة في ملفات أخرى، إما لأن خصومه فهموا مبكرا الفلسفة التي يتحرك بها، وإما لأن شركاءه تآكلت ثقتهم في قدرته على الالتزام.

في ملف التجارة العالمية، اختار ترامب أن يبدأ بحرب شاملة وتصريحات صاخبة للغاية. فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، من كندا إلى الاتحاد الأوروبي إلى الصين، ثم دعا إلى مفاوضات ثنائية بدلا من النظام التجاري متعدد الأطراف، باعتبار ذلك جزءا من إستراتيجيته لإعادة "التوازن التجاري" لصالح أميركا. فعليا، نجح في تعديل بعض الاتفاقات (مثل "USMCA" مع كندا والمكسيك)، لكنها تعديلات شكلية في معظمها.

أما مع الصين، فقد تحوّلت الحرب التجارية إلى ماراثون نزيف اقتصادي متبادل، لم تنتهِ إلا بهدنة هشّة لم تعالج جوهر الخلافات البنيوية، وما زالت الضغوط القاسية مستمرة بين الطرفين تعاني منها واشنطن كما تعاني بكين. وهكذا، أنتجت هذه الإستراتيجية حالة من التوتّر المستدام دون تسوية إستراتيجية حقيقية.

وفي السياسة الأوروبية، أثمر ضغط ترامب على الناتو عن التزامات مالية إضافية بالفعل، لكن الكلفة الدبلوماسية كانت مرتفعة، حيث إن تكرار التهديد بالانسحاب جعل كثيرا من الحلفاء يتعاملون مع الإدارة الأميركية بقدر من الحذر الإستراتيجي، وبدأت برلين وباريس تبحثان، للمرة الأولى بجدية، في إمكانية بناء بنية أمنية أوروبية مستقلة عن واشنطن، وأُثيرت مؤخرا نقاشات بين برلين ولندن حول اتفاقية دفاعية ثنائية. بهذا المعنى، حصل ترامب على تنازلات، لكنه زعزع ما عُدَّ لعقود "الركيزة النفسية" لتحالف الغرب.

وفيما يتعلق بإيران، سعى ترامب إلى فرض "اتفاق نووي جديد" بشروط أميركية، مدعوما بقصف على منشآت نووية داخل إيران بعد فشل المفاوضات. ورغم هذا الضغط، فإن طهران لم تنهَر، بل صعّدت خطواتها تجاه التخلي عن التزاماتها النووية والانسحاب من اتفاقية حظر الانتشار النووي، ولم تعدْ بعدُ لحظيرة الدبلوماسية منذ أطلق نتنياهو الرصاصة الأولى في 13 يونيو/حزيران.

وهنا تكمن المفارقة التي تنتجها إستراتيجية ترامب؛ حيث ينجح أحيانا لأنه يبدو غير موثوق، ويفشل أحيانا للسبب نفسه. فما يمنحه القدرة على التهديد، يسلبه القدرة على طمأنة الطرف الآخر بأن ثمة طريقا جادّة للاتفاق.

وهكذا، فإن نموذج ترامب ليس بلا جدوى، لكنه أيضا ليس وصفة سحرية. في الملفات التي تحتاج إلى صدمة أو تفاوض سريع قد يُنتج أرباحا آنية، لكنه في الملفات المركّبة والمعتمدة على الثقة التراكمية -مثل احتواء الصعود الصيني، وإنهاء الحرب في أوكرانيا، وتعديل النظام التجاري- يبدو كمَن يهدم ثم لا يقدر على إعادة البناء.

نظرية "الرجل المجنون": من نيكسون إلى ترامب

غير بعيد عن نموذج ترامب؛ تُعد "نظرية الرجل المجنون" أحد أكثر الأساليب التفاوضية إثارة للجدل في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية.

تقوم النظرية على مبدأ بسيط في ظاهره، معقّد في تطبيقه، مفادُه أنك إذا أقنعت خصمك بأنك "غير عقلاني" بما يكفي لأن تتخذ قرارات مدمّرة، فإنه مدفوعا بالخوف سيقبل بالتراجع أو التنازل لتجنّب الأسوأ، إذ إن الناس عادة يسرعون لتجنب الخسائر أكثر مما يسارعون لجني المصالح. هنا ليست القوة وحدها هي الرادع، بل الإيحاء بأن تلك القوة ليست منضبطة، وأنها تحوي مزيجا من الجنون والغموض والانفعال.

تُنسب النظرية إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال حرب فيتنام، حين أبلغ كبير موظفيه، هاري روبنز هالدمان، أنه يريد أن يظن الفيتناميون الشماليون بأنه "مجنون فعلا" ومستعد لاستخدام السلاح النووي إذا اقتضى الأمر.

"عليك أن تُقنعهم بأنني لا أسيطر على نفسي عندما أغضب، وأنه في أي لحظة يمكن أن أضغط الزر، سيخافون وسيرضخون لنا"، هكذا قال له نيكسون وفقا لمذكرات هالدمان. ورغم أن نيكسون أنكر لاحقا أنه قال ذلك حرفيا، فإن ما نقله هالدمان ظلّ حاضرا في الذاكرة السياسية الأميركية بمنزلة أصل هذه العقيدة الغامضة.

الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون (غيتي)

بيد أن الفكرةَ أقدمُ من نيكسون ذاته بكثير. في كتابه "نقاشات حول ليفي"، كتب نيقولا مكيافيللي: "أحيانا يكون من الحكمة أن تتظاهر بالجنون".

إعلان

هذه الفكرة تبنّاها لاحقا مفكّرون في مجال الإستراتيجية، مثل توماس شيلينغ ودانيال إلسبرغ، خلال سنوات الحرب الباردة، حين جادلوا بأن وجود شيء من اللاعقلانية أو عدم اليقين في سلوك القادة قد يجعل الخصم أكثر حذرا من الإقدام على التصعيد. لكن معظم هؤلاء المنظّرين لم يُوصوا أبدا باستخدامها بشكل فج، بل كانوا يعتبرونها احتمالا مؤقتا ضمن ألعاب الردع.

ومع البريق الذي يبدو محيطا بهذه النظرية، فإن أداءها تاريخيا لم يكن باهرا. فنيكسون نفسه، الذي سعى لتطبيقها مع فيتنام والاتحاد السوفياتي، لم يجنِ منها نتائج ملموسة؛ لم تتنازل هانوي، ولم ترتبك موسكو. السبب، كما خلص عدد من الباحثين، هو أن القادة في الطرف الآخر كانوا يعرفون تماما أن "الجنون المقصود" هو مجرد تكتيك، وأن واشنطن، رغم تهديداتها، تخضع لنظام بيروقراطي معقّد، ولرأي عام يصعب تجاهله. ولذا، فإن تهديدات نيكسون، رغم صخبها، بدت بلا أنياب.

لكن الأمر تغيّر مع دونالد ترامب. فالرجل لم يتقمّص دور المجنون، بل يُنظر إليه باعتباره كذلك حقا. يشرح دانيال دريزنر، في "فورين أفيرز"، أن ما كان "تمثيلا مقصودا" لدى نيكسون، بات لدى ترامب سِمة متأصلة في شخصيته السياسية، العديد من قادة العالم، من كوريا الجنوبية إلى كندا، يتعاملون مع ترامب على أنه "فعلا غير متوقع"، لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه كذلك فعلا.

في المقابل، تشير الباحثة روزان ماكمانوس، في أبحاثها بجامعة بن ستيت، إلى أن "نظرية الرجل المجنون" قد تنجح فقط في حالات نادرة، عندما يكون القائد غير عقلاني حول قضية محددة، لا مجنونا بشكل عام. فإذا اعتقد الخصم أن الطرف الآخر يهتم بقضية واحدة بشراسة، فقد يُصدّق تهديده. أما إذا بدا أن السلوك المجنون هو جزء من الشخصية العامة، فإن التهديد يفقد مصداقيته، لأن الطرف الآخر لن يعرف متى يتوقف هذا الجنون، ولا متى يتحقق الاستقرار.

المشكلة الكبرى إذن ليست في زرع الخوف فقط، بل في القدرة على ضبطه أيضا، حيث تقتضي نظرية "الرجل المجنون" -حتى تنجح- أن تكون هناك طمأنة موازية للتهديد ومكافئة له، أي إن القائد يجب أن يقنع خصمه بأنه إذا استجاب فسوف يحصل على استقرار أو سلام دائم يستحق التنازل.

لكن من لا يستطيع ضبط سياسة "الرجل المجنون" لا يبعث على الطمأنة، ولا يستطيع أن يبني هذه الثقة مع من حوله. ولهذا، كما لاحظ دريزنر، فشلت معظم محاولات ترامب في انتزاع تسويات نهائية، لأنه لم يكن يُنظر إليه بوصفه شخصا يمكن الوثوق به حتى بعد الوصول إلى اتفاق.

في كل الأحوال، ليس في عالم السياسة ما يُفزع أكثر من رجل يملك زمام القوة ويتقن التلويح بإطلاق أعنّتها دون رادع ولا ضابط. هكذا بدا دونالد ترامب على المسرح الدولي؛ رجلٌ يفاوِض وكأن العالم طاولة قمار، يُصعّد ثم يتراجع، يهدد ثم يساوم، يختبر الحدود بينه وبين خصومه ليس من أجل احترامها، بل لإعادة رسمها وفق ما يريد. وأيًّا ما كانت نتائج هذا النهج، المزيد من الاتفاقات أم المزيد من الحروب، فإنه سيبقى النموذج الصاعد في السياسة الأميركية لسنوات قادمة، وعلى العالم أن يُجيد فهمه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق