مورد وطني بين مطرقة العشوائية وسندان الفرصة
بورسعيد ــ طارق حسن:
علي الضفة الشرقية لقناة السويس. تقف جبال الملح في مدينة بورفؤاد شامخة كأنها جبال ثلج ناصعة. تبهر زوارها ومصوريها بسحرها البصري الفريد. بينما تخفي خلف هذا الجمال الطبيعي إرثًا صناعيًا ضخمًا وفرصًا اقتصادية وسياحية واعدة. تنتظر فقط من يمد لها يد التطوير والتنظيم.
ورغم ما تتمتع به من إمكانات استثنائية. فإن هذه الجبال لا تزال تتأرجح بين كونها مجرد خلفية لجلسات تصوير العرسان ومحبي "الفوتوسيشن". وبين كونها موردًا استراتيجيًا ومزارًا بيئيًا واعدًا يمكن أن يسهم في خلق فرص عمل وتحقيق عوائد تنموية وسياحية مستدامة.
في هذا التحقيق. نغوص في تفاصيل هذا الكنز الأبيض. من أعماق الصناعة إلي آفاق السياحة. ومن التهديدات البيئية إلي طموحات الشباب. لنرسم صورة متكاملة لمورد طبيعي قد يكون أحد مفاتيح التنمية المتكاملة في منطقة القناة.
تحظي ملاحات بورفؤاد بمكانة متميزة بين أهم مشروعات إنتاج الملح في مصر. إذ تمتد علي مساحة تقارب سبعة ملايين متر مربع. وتنتج سنويًا نحو 300 ألف طن من الملح. يُصدّر منها أكثر من 30% إلي الأسواق الأوروبية. خاصة لاستخدامه في إذابة الجليد علي الطرق خلال فصل الشتاء.
ويؤكد المهندس أحمد سامي. أحد مهندسي التشغيل بالملاحات. أن الملح المصري يتمتع بدرجة نقاء عالية جدًا. حيث تصل نسبة كلوريد الصوديوم إلي أكثر من 98%. ما يجعله من أنقي أنواع الملح الصناعي عالميًا. ويعزز من تنافسيته في الأسواق الخارجية.
في السنوات الأخيرة. تحولت جبال الملح إلي مزار غير رسمي. بعد أن اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي صور لعرسان التقطوا جلسات تصوير وسط التكوينات البيضاء التي تشبه جبال الثلج في أوروبا. وسرعان ما أصبحت وجهة مفضلة لهواة التصوير والرحلات السريعة.
ويقول منير حمود. مؤسس برنامج "سياحة اليوم الواحد ببورسعيد": جبال الملح أصبحت نقطة جذب مهمة ضمن برامجنا. فهي مشهد بصري نادر في مصر. يمكن استثماره لتقديم تجربة سياحية مميزة. مثل كهوف الملح في الخارج. مع إمكانية تدريب شباب المنطقة ليكونوا مرشدين سياحيين أو مقدمي خدمات سياحية وصحية متعلقة بالملح."
رغم هذا الزخم السياحي المتزايد. يحذر الخبراء من مخاطر الزيارات غير المنظمة. التي قد تؤثر علي التكوينات الملحية الفريدة وجودة المنتج الصناعي.
يقول الدكتور أحمد يوسف عزت. أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب. إن الزيارات العشوائية تسببت في تآكل بعض الجبال وترك مخلفات. ما قد يُلحق ضررًا بيئيًا طويل المدي.
وتشدد الدكتورة هالة فوزي. أستاذة الجغرافيا البيئية بجامعة بورسعيد. علي ضرورة أن تخضع أي تنمية سياحية بالمنطقة لتقييم بيئي دقيق. يتضمن تحديد "السعة البيئية" للمكان. مع إنشاء ممرات للزوار ونقاط مراقبة لحماية الجبال.
تؤكد المهندسة سارة سمير أن تطوير الموقع يحمل فرصة ذهبية لتشغيل شباب بورسعيد. سواء في السياحة البيئية. أو مجالات التصوير الفوتوغرافي. الإرشاد. النقل. وبيع المنتجات اليدوية. وتضيف: "بدأت بعض المبادرات المجتمعية في تقديم جولات مقابل رسوم رمزية. لكن تلك الجهود تفتقر إلي الدعم الرسمي والتدريب المهني."
وفي السياق ذاته. تقول سارة المغربي. منظمة رحلات تطوعية: "نستقبل زوارًا من محافظات عديدة. لكننا نعمل بدون دعم من المحافظة. نأمل في إنشاء مركز صغير للزوار يُدار بالكامل من قبل شباب المنطقة."
ورغم الشهرة المتزايدة للمكان عبر مواقع التواصل. تشير الصحفية هبة صبيح إلي أن التغطية الإعلامية لجبال الملح لا تزال محدودة وموسمية. وتطالب بتخصيص مساحات في وسائل الإعلام لطرح تحقيقات وتحليلات معمقة حول الموقع. باعتباره موردًا استراتيجيًا يمكن أن يتحول إلي قصة نجاح تنموية.
دعا الخبراء إلي إصدار قرار وزاري عاجل بإدراج جبال الملح كمزار بيئي تحت إشراف الدولة. وتشكيل لجنة مشتركة من وزارات السياحة. البيئة. قطاع الأعمال. والتنمية المحلية. لوضع خطة تطوير مرحلية تراعي الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
كما يوصون بفتح المجال أمام الاستثمار الخاص. وفقًا لشروط بيئية صارمة. لضمان الحفاظ علي التكوينات الطبيعية وفي الوقت نفسه تحقيق عوائد اقتصادية وفرص عمل حقيقية.
جبال الملح في بورفؤاد ليست مجرد تكوينات طبيعية خلابة. بل هي كنز متعدد الأبعاد: اقتصادي. سياحي. بيئي. وتنموي. بين يدي الدولة والمجتمع فرصة فريدة لتحويل هذا المورد الخامل إلي نموذج حي للتنمية المتكاملة. فقط إذا توفرت الرؤية وتضافرت الجهود.
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
0 تعليق