كتبت بديعة زيدان:
في وقت تشكل فيه "راس أنجلة" نقطة جذب سياحية في ولاية بنزرت التونسية، وتقع في أقصى نقطة في شمال القارة الأفريقية، فإنها كما بقية البلاد تشكل بيئة طاردة لأهلها وسكانها، حيث الفقر والبطالة، خاصة بين المتعلميّن، والتسلط الأبوي بكافة أشكاله، والقمع المجتمعي، والتشدد الديني، وغير ذلك.
وهذا ما يتضح جليّاً في رواية "راس أنجلة" للروائية التونسية إيناس عباسي، الصادرة حديثاً عن "نوفل"، دمغة الناشر هاشيت أنطوان، في العاصمة اللبنانية بيروت.
وتتوزع الرواية كما الساردين على أربعة فصول ترصد حكاية عائلة تونسية بلسان الشقيقتين "ناديا" و"ليندا"، وزوج الكبرى الفرنسي "فيليب"، فهي رواية متعددة الأصوات، لا تغفل صاحبتها حديث الرواة فيها، عن أمهما، وشقيقيهما، والأبناء، وبعض الشخصيات العابرة، انتهاء بـ"آماندين"، ويعني "المحبوبة" أو "الجديرة بالحب" بالفرنسية، والتي ترمز بقدومها إلى الأمل باستقرار ما، بعد العواصف الجوانية والبرانية التي عصفت بهم، وجرّاء تلك التي تعصف بتونس على أكثر من صعيد، وفي أكثر من اتجاه.
والرواية التي تدور أحداثها ما بعد الثورة التونسية، وتحديداً في الفترة بين العامين 2012 و2021، تتكئ على ثلاثة أصوات يأخذ كل منها حصته في السرد، بدءاً من "ناديا" التي تبدأ السرد وتختتمه، يليها "فيليب" زوجها، ومن ثم "ليندا" شقيقتها الصغرى.
تهرب ناديا من "راس أنجلة"، حيث تمثال "رأس الملائكة الشهير"، لاجئة إلى فرنسا، بعد تعرضها لمحاولة قتل برفقة المصور منذر، وربطتهما علاقة حميمة رغم أنها لا تحبّه ورغم أنه متزوج، لكنها الوحدة.. هاجمتهم مجموعة من الملثّمين، بينما كانت تعد كتاباً عن الطهي بعنوان "بوصلة الطبّاخ في البحر الأبيض المتوسط"، لتستثمر هذه الحادثة، وتتحصل على منحة للكتابة في تولوز، حيث تتعرف بفيليب ومن ثم تتزوجه.
"قصة سفري ورحيلي إلى فرنسا عجيبة، فلو لم أحصل على دعم لمشروع كتابي، لو لم يهاجمنا ثلاثة ملثمين أنا ومنذر بينما كنا نعمل على صور الكتاب، لو لم أوشك على الموت، لما طلبت اللجوء إلى فرنسا، ولما حصلت عليه.. غمزتْ صنّارتي بفرصة سحبتها دون تردد، وسعيتُ لتحقيقها".
تحدثنا ناديا عنها وعن منذر وفيليب وليندا أيضاً، وعن أمها، التي فرت بأبنائها الأربعة من الأب القمعي المتسلط، لكنها أيضاً تكشف عمّا كانت تتعرض له طالبة مدرسية، وهو ما ينسحب على العديد من مثيلاتها في مدرستها، وغيرها من المواقع في طول البلاد وعرضها، معترفة أمامنا بأنها كانت تتعرض لتحرش ومداعبات من أستاذ التربية الرياضية، حتى أنها ولفترة لم تتصالح مع جسدها، هي التي تقول: "لطالما تعمّد الرجال لمسي، متعلّلين بأن اللمسة كانت من باب الخطأ"، رغم أن "نظراتهم الجائعة والمتلهفة كانت تفضحهم".
نتعرف بداية على فيليب، عبر ناديا، التي تسلط الضوء على نوبات الغضب التي كانت تتملكه بين فترة وأخرى تبعاً للأزمات النفسية التي رافقته منذ عودته من الحرب في أفغانستان، ما أثر على حياتهما وحياة أبنائهما.. "لكنهم تلك المرّة عادوا مختلفين، بوجوه متعبة ونظرات شاردة، عرفنا أنهم تعرضوا لهجوم، وأن أربعة من زملائهم قتلوا، وأفظع ما في الأمر أن ماتيو صديق فيليب المقرّب كان أحد الضحايا".
وقبل تسليمها قصب السرد إلى فيليب، حدثتنا ناديا عن المهاجرين إلى سواحل المتوسط وعبرها، خاصة نحو فرنسا وإيطاليا، منذ "البوت بيبول"، أي أناس القوارب، وهي التسمية التي أطلقت على الهاربين بالقوارب والزوارق في الحرب الفيتنامية بين الشيوعية والرأسمالية، ومن سبقوهم، وليس انتهاءً بقوارب الموت التي انطلقت ولا تزال من مدن ساحل المتوسط العربية، في المغرب العربي ومشرقه، وكان "نوفل" شقيقها ارتمى أخيراً في أحضان إحداها يائساً.
وحين ينتقل السرد إلى فيليب نكتشف أموراً عنه لم تكن لتسردها ناديا، كأزمة الهوية التي يعيشها، فهو فرنسي لجهة الأم متعددة العلاقات، ويُعتقَد أن والده تونسي، لذا بقي يعيش أزمة البحث عن والده البيولوجي.. "لطالما رفضتْ جدتي تقبّل حقيقة أن أبي كان عربياً، قبِلتْني حفيداً أسمر اللون بشعر مجعّد، دللتني وأحبتني على طريقتها.. حرصت على كيّ ملابسي وتعطيرها، فلم أذهب يوماً إلى المدرسة إلا مُهندماً كأفضل ما يكون، حرصتْ على إعداد وجباتي المفضلة، وعلى منحي مصروف جيب، وإهدائي كل الألعاب التي أريد.. لم يكن الحنان يتجسد في كلمات أو قبل أو عناق.. محت كل وجود ممكن لأبي في أحاديثنا، وكأنه لم يُوجد قط، وكأنّ أمي حصلت عليّ مقابل قسيمة شراء من متجرٍ ما".
ويتكشف لنا في سرد فيليب معاناته من عنصرية فرنسية بسبب لون بشرته وشعره الأجعد، هو الذي وصف نفسه بل كان يَشعُر أنه "عربي متنكر في شكل فرنسي، أو فرنسي يُخفي عربياً داخله"، حتى كره ملامحه، خاصة بعد العبارات التي كانت تقتنصه من الفرنسيين البيض "أصحاب الدماء الصافية والنقيّة" في مدرسته، كأن: "انظروا إلى رأس الخروف، انظروا إلى صوفه"، أو "لِمَ لونك بنّي هكذا؟ هل نسيت أن تغتسل أم ماذا؟"، حيث "كان الأولاد في المدرسة لا يرفضون اللعب معي فحسب، كانوا يرفضون وجودي بينهم".
فيليب، الذي يحدثنا عن أمه "دومينيك"، وأخته غير الشقيقة من أب برتغالي، يتطرق إلى قضية لا يمكن أن تكون عابرة، وتتعلق بالجنود الذين يتم تسريحهم من الحرب لسبب أو لآخر، وما يعيشونه من إهمال، علاوة على الإحباط الذي يتملكهم كما الأزمات النفسية.. "متقاعد في الثلاثينيات من عمري، يا للسخافة! ما الذي سأفعله؟ أي مهنة قد أجيد، وأي مصير ينتظرني؟ لا أحد منّا نحن الجنود يعرف مواعيد رحيلنا، نحن بيادق من لحم ودم نتلقى رصاصة في الرأس فينتهي كل شيء (...) سُرّحت من الخدمة العسكرية، دخلتُ بعقلٍ وخرجتُ من دونه.. أرى ثقباً على جبيني صباحاً حين أغسل وجهي".
ليندا، التي تحمل شهادة في البيولوجيا، تحطّ في الإمارات لتعمل "حلّاقة" في صالون، بعد أن لم يبقَ سواها في بيت أمّها، كان قرارها بالرحيل إلى حيث تعرفت إلى عوالم جديدة في الجنة المفترضة، والشاب الإماراتي "راشد" مشدود الجسم، والرجل الحلم، كما خالته، قبل أن تكتشف أنه ليس سوى باحث عن المتعة، بينما كانت وبقيت تبحث عمّن يحقق لها أحلامها، خاصة بعد أن اكتشفت أن راتبها الشهري الذي تحصلت عليه لا يزيد على ربع ما تمّ التوافق عليه، وأنّ صاحب العمل (الكفيل) احتجز جواز سفرها، مانعاً إياها من السفر إلا حال تنفيذها بنود العقد بشروطه القاسية.
"راس أنجلة" التي وظفت الدارجة التونسية باقتدار، هي رواية عن الهجرة، وعن العنف الذكوري، والقهر داخل الأوطان، وعن نتائج الاستعمار، وعن علاقات الأبناء بآباء مغيبين، وأمهات يبحثن عن الاستقلال بطرقهن الخاصة، وأكثر من ذلك، مشكلة مرآة عاكسة معاكسة لتونس ما بعد الثورة.
0 تعليق