كيف تحولت شقة الجدة وسط البلد إلى مصدر إلهام روائي لرشا عدلي؟ - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في البدء كانت مكتبة والدها العامرة، تربّت رشا عدلي على القراءة منذ نعومة أظفارها، اتصلت أسبابها بألف ليلة وليلة وعدد من الروائع الأدبية التراثية، وكتابات إحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ وغيرهم.

ومن منطلق أن "كل فتاة بأبيها معجبة"، فقد تأثرت بهذا الباحث في الفولكلور، وأحد مؤسسي معهد الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، لكنها خرجت من عباءته لاحقا فاختارت الترجمة وكتابة الرواية التاريخية ميدانا لإبداعها، وما زالت وفية للرواية التاريخية، وإن خرجت عنها مرات قلائل إلى الآن.

في جعبة رشا عدلي 11 رواية: صخب الصمت (2010)، الحياة ليست دائما وردية (2012)، الوشم (2013)، نساء حائرات (2014)، شواطئ الرحيل (2015)، شغف (2017)، آخر أيام الباشا (2019)، على مشارف الليل (2020)، قطار الليل إلى تل أبيب (2021)، أنت تشرق.. أنت تضيء (2023)، جزء ناقص من الحكاية (2024).

وهي كذلك باحثة في تاريخ الفن، وحاصلة على دبلوم المعهد العالي في تاريخ الفن التشكيلي من أكاديمية لايم للفنون، ودرجة الماجستير في الفن، وعضوة باحثة في الرابطة العالمية لمؤرخي الفن، ولها في هذا المجال إصدار بعنوان "ملء العين.. المرأة في الفن التشكيلي عبر العصور" (2023)، ولها كذلك "القاهرة المدينة.. الذكريات" (2011)، وهو كتاب عن فن الاستشراق، تناول سير عدد من الفنانين والأدباء منذ الحملة الفرنسية وصولا إلى نهاية القرن 19. التقتها الجزيرة نت وكان لنا معها هذا الحوار.

من مكتبة الوالد وعالم الفولكلور إلى التاريخ والفن التشكيلي.. كيف جاءت هذه النقلة؟

جاءت النقلة من عالم الفولكلور ومكتبة والدي الغنية إلى التاريخ والفن التشكيلي بشكل طبيعي وتدريجي. منذ طفولتي كنت محاطة بالكتب، لا سيما كتب التراث مثل "ألف ليلة وليلة"، التي شكّلت خيالي وأسّست علاقتي بالسرد، كما كانت هناك كتب عن الأساطير والملاحم الشعبية، وهذه أمدّتني بحسّ روائي مبكر.

إعلان

لكن التحول الأهم بدأ في شقة جدتي القديمة وسط البلد، حيث عاشت فيها فنانة فرنسية لسنوات طويلة قبل أن تسكنها جدتي.. كانت الجدران لا تزال تحتفظ ببعض لوحاتها، وكانت تثير فيّ فضولا عميقا؛ لم أكن أفهم تماما ما تمثله، لكنني شعرت أن وراءها حكايات تنتظر من يرويها. من هنا بدأ اهتمامي بالفن كوسيلة للتعبير والتوثيق، ووجدت في الجمع بين التاريخ والفن مساحة سردية غنية تمنحني القدرة على إعادة بناء الحكايات.

أما عن موهبتي الأدبية، فقد بدأت ملامحها تظهر منذ سنوات الدراسة الأولى، لكن الوعي بها تبلور تدريجيًا، حين بدأت أكتب نصوصا قصيرة وأشعر أن الكتابة لم تكن لي وسيلة تعبير فحسب، بل أيضا لفهم العالم وتفكيك ما يجري حولي.

رشا عدلي
رشا عدلي: لم أتوقع أبدا أن يكون إنتاجي الأدبي بهذا الحجم.. كنت أكتب من باب الشغف، وكان كل كتاب أو مقال أكتبه يشكل خطوة جديدة في فهم نفسي (مواقع التواصل)

متى بدأت تكتشفين موهبتك الأدبية؟

كانت البداية عام 2007، أطلقت مدونتي التي كانت تركز على الفن التشكيلي، وكان الهدف الرئيسي منها هو التعبير عن شغفي بالفن، ومشاركة معرفتي ودراستي في هذا المجال. لم أكن أدرك حينها أن تلك المدونة ستفتح أمامي أبوابًا جديدة، وأنها ستكون بداية لمسيرة طويلة ومتعددة في عالم الكتابة والفن.

مع مرور الوقت، بدأ الفضول يزداد، وأصبحت الكتابة جزءًا أساسيًا من حياتي. كتبت عن مواضيع متنوعة تتعلق بالفن التشكيلي، ولكن في الوقت نفسه بدأت أيضًا أستكشف مجالات أخرى مثل الأدب والفلسفة، كانت المدونة بمنزلة نافذة لي للتعبير عن أفكاري ورؤاي الفنية والأدبية.

(هذا سؤال.. ينبغي ترتيبه على هذا الأساس، أليس كذلك؟) عام 2007، بدأتِ المسيرة -على استحياء- بمدوّنة مختصة بالفن التشكيلي على شبكة الإنترنت.. ثم ماذا؟ وخلال تلك الأيام الأولى هل توقعتِ أن يكون إنتاجك الأدبي بهذه الغزارة وذلك التأثير؟

بالطبع، "صخب الصمت" أول عمل لي وأعتز به.. كان محاولة لفهم العلاقة بين الصمت والصخب الداخلي الذي يمكن أن يعصف بنا. الرواية تدور حول العديد من الأفكار، وكيف أن الصمت في بعض الأحيان يكون أكثر ضجيجًا من الكلمات، وهو ما يعكس حالة من التوتر الداخلي والتساؤلات التي لا نجد لها إجابات فورية، وهي رواية عن الحب والحرب.

أما "الحياة ليست دائما وردية"، فهي رواية تاريخية تناولت فيه وجهات نظر مختلفة عن واقع الحياة، تحاول تسليط الضوء على التحديات والصعوبات التي يواجهها الإنسان في حياته. رغبت في مناقشة فكرة أن الحياة ليست دائمًا كما يتصورها بعضنا، وأن النجاح والراحة لا يأتيان من دون صراع، بل على العكس، قد تكون الحياة مليئة بالظروف المعقدة التي تتطلب منا أن نتعامل معها بمرونة وتفهم.

استلهمت فكرة "أن الحياة ليست دائما وردية" من قصة حياة فنانة كانت تعيش في شقة جدتي وسط البلد، بدأت حياتها فنانة بسيطة في حي "مونمارتر" الباريسي، خاضت ظروفا صعبة، لكنها آمنت بفنها وكافحت لتصبح واحدة من أشهر الفنانات في فرنسا. مع مرور الوقت، تحولت إلى فنانة القصور الخديوية في مصر، ولاقت شهرة ونجاحا كبيرين.

هذه القصة تُفيد أن الحياة ليست دائما مليئة بالألوان الوردية، بل هي مليئة بالتحديات واللحظات الصعبة التي تتطلب الإصرار والمثابرة. ورغم صعوبة الظروف التي واجهتها، استطاعت تحويلها إلى فرص للنمو والنجاح.

إعلان

في البداية، لم أتوقع أبدا أن يكون إنتاجي الأدبي بهذا الحجم.. كنت أكتب من باب الشغف، وكان كل كتاب أو مقال أكتبه يشكل خطوة جديدة في فهم نفسي وفي استكشاف العالم من حولي. لكن مع مرور الوقت، ومع تزايد ردود الفعل من القراء والمتابعين، بدأت أدرك أن الكتابة ليست مجرد هواية أو تمرين شخصي، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتي. الكتابة تطلبت مني جهدًا وصبرًا، كما منحتني في الوقت نفسه شعورًا عميقًا بالتحقق والإنجاز.

رشا عدلي رواية (شغف)
رشا عدلي: رواية "شغف" كانت بالفعل منعطفًا مهمًا في مسيرتي الأدبية (الجزيرة)

للرواية التاريخية إغراءات وإكراهات.. كيف تلتقطين الخيوط الأولى لرواياتك؟ وما أهم الإغراءات والإكراهات التي تواجهك في تشييد معمار هذه الفئة من الروايات؟

الرواية التاريخية تحمل إغراءات كبيرة، فهي تمنحني الفرصة لاستكشاف فترة معينة في التاريخ وإعادة إحياء شخصيات وأحداث قد تكون غامضة أو منسية. الإغراء الأول هو السحر الكامن في ربط الحكايات الشخصية بالواقع التاريخي، إذ تلتقي اللحظات الإنسانية بالتفاصيل التاريخية، ما يمنح الرواية بُعدًا إنسانيًا عميقًا. أما الإغراء الثاني فيتمثل في القدرة على خلق عالم حيّ ينبض بالحركة ويعيش ضمن أطر زمنية معينة، مما يعزز الغنى الدلالي لرواياتي.

أما الإكراهات، فهي تتنوع بين التحدي في التعامل مع الوقائع التاريخية وموازنتها مع بناء حبكة روائية مشوقة؛ ففي الرواية التاريخية يجب أن تكون الأحداث والشخصيات دقيقة، بحيث لا يُحرّف التاريخ، وفي الوقت ذاته لا أريد أن أعيق الخيال الفني الذي أحتاجه لبناء عالم الرواية. هذه المعادلة بين الإبداع والحقيقة تصبح من أكبر التحديات التي أواجهها.

إضافة إلى ذلك، هناك صعوبة في تجاوز بعض القيود الزمنية والثقافية التي تفرضها الحقبة التاريخية، التي قد تؤثر في طريقة تقديم الشخصيات والأحداث بشكل يتماشى مع معايير المجتمع المعاصر. هذا يتطلب مني أن أظل وفيّة للأحداث التاريخية مع إضفاء لمسة إنسانية تراعي تطور التفكير والوعي عبر العصور.

مثّلت رواية "شغف" منعطفا في حياتك الأدبية.. حدّثينا عن كواليس هذا العمل وما ترتّب عليه.

نعم، رواية "شغف" كانت بالفعل منعطفًا مهمًا في مسيرتي الأدبية، ليس فقط لأنها لفتت انتباه النقاد بشكل كبير، بل لأنها مثّلت لحظة نضج في تجربتي السردية، حيث امتزج فيها التاريخ بالفن والسياسة بالحب، بطريقة أكثر عمقًا وتكثيفًا. جاءت الرواية بعد سنوات من البحث والانغماس في عالم الفن التشكيلي، وطرحت من خلالها أسئلة وجودية حول الهوية، والجسد، والتعبير، مستندة إلى قصص نساء عشن في الظل، لكنهن تركن أثرًا خفيًا في التاريخ.

نجاح "شغف" لم يكن في انتشارها أو ترجمتها فقط، بل في تفاعل القرّاء والنقّاد معها، وقد فُوجئت حين علمت أنها أصبحت جزءًا من منهج اللغة العربية في بعض المدارس الثانوية في لبنان، وقد ذهبت إلى هناك والتقيت الطلبة وتناقشنا حول أحداث الرواية، وهي مقررة هذا العام على طلبة الدراسات العليا في أكاديمية الفنون. وفي الواقع، رواية "شغف" تفاجئني يوما بعد آخر، فهي رواية تتجدد دائما، ربما لأنها تحمل ذكريات لا تنضب ولا تُنسى أبدا.

أما على مستوى المسار، فقد فتحت "شغف" الباب واسعًا لروايتي التالية "آخر أيام الباشا"، التي واصلتُ فيها الاشتغال على التاريخ، لكن من زاوية مختلفة، أكثر سياسية واجتماعية. لقد منحتني "شغف" الثقة لأواصل هذا النوع من الكتابة المركّبة، التي تمزج بين الوثيقة والسرد، وبين الحكاية والتاريخ، وتطرح الفن كأداة مقاومة ونجاة. وصلت "آخر أيام الباشا" أيضا إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وأكدت على وجودي في الساحة الأدبية بشكل أوسع.

The Girl with Braided Hair book
تعاملت المترجمة الدكتورة سارة عناني مع رواية "شغف" كعمل حي، بكل ما فيه من حساسية تاريخية وجمالية (الجزيرة)

من خلال خبرتك الشخصية في ميدان الترجمة.. هل تعتقدين بخيانة المترجم؟ وما أبرز التحديات اللغوية التي تواجه المترجم الأدبي؟

إعلان

الحديث عن الترجمة حديث عن إعادة خلق، وليس فقط عن نقل كلمات من لغة إلى أخرى. من خلال تجربتي الشخصية، لا أؤمن بخيانة المترجم كما يُشاع أحيانًا، بل أراه شريكًا إبداعيًا للمؤلف، لا سيما حين نتحدث عن الأدب، حيث تتداخل المشاعر والثقافات والنبرات بشكل يصعب التقاطه حرفيًا. الترجمة الجيدة هي تلك التي تنقل روح النص لا شكله فقط، وهذا ما شعرت به بوضوح في ترجمة رواية "شغف".

المترجمة الدكتورة سارة عناني كانت مثالًا حيًا على هذا الفهم العميق للنص، لقد تعاملت مع "شغف" كعمل حي، بكل ما فيه من حساسية تاريخية وجمالية، واستطاعت أن تعيد تقديم الرواية للقارئ الإنجليزي التي صدرت تحت عنوان مختلف "الفتاة ذات الشعر المضفّر" (The Girl with Braided Hair) وهو عنوان مستلهم من روح العمل، لكنه كان ملائمًا جدًا، وجذب شريحة واسعة من القراء.

ترجمة "شغف" إلى الإنجليزية، ثم لاحقًا إلى الهندية والإسبانية، مثّلت لي تجربة شديدة الثراء، ليس فقط لأنها أوصلت الرواية إلى جمهور أوسع، بل لأنها أعادت تعريف العلاقة بين النص الأصلي وثقافات جديدة تقرؤه من زوايا مختلفة. وقد كان من دواعي فخري أن تُرشّح النسخة الإنجليزية لجائزة دبلن العالمية وتصل إلى قائمتها الطويلة، ثم تفوز بجائزة بانيبال.

أما أبرز التحديات التي يواجهها المترجم الأدبي، فهي الحفاظ على حيوية اللغة، والتوازن بين أمانة النص وروحه. العربية لغة غنية بالإيحاءات والسياقات، وترجمتها تتطلب فهمًا عميقًا للثقافة، وليس فقط للغة. لذلك، الترجمة الأدبية ليست مهنة تقنية، بل فعل أدبي بامتياز.

من حيث المهام الموكلة، فإن الوكيل الأدبي يعادل وكيل أعمال لاعب كرة القدم، والمحرر الأدبي يختلف عن المدقق اللغوي.. كيف يمكن الإفادة من هذين الدورين في عالمنا العربي؟ وما معوقات ذلك؟

الوكيل الأدبي والمحرر الأدبي يؤديان دورًا محوريًا في نجاح الكاتب وانتشار أعماله. الوكيل يسهم في حماية الحقوق وتوسيع الحضور عربيا ودوليا، بينما يساعد المحرر الأدبي في صقل النص وتعزيز جودته. ورغم غياب هذين الدورين في كثير من السياقات العربية، فإن حضورهما بات ضرورة ملحّة لتطوير صناعة النشر وتحقيق العدالة المهنية للكاتب.

(هذا أيضا سؤال.. وينبغي ترتيبه على هذا الأساس، أليس كذلك؟) في "نساء حائرات"، خرجتِ عن الملامح المؤطرة لمشروعك الروائي، وتناولتِ قضايا عصرية وتحديات قائمة، ثم عدتِ إلى ملمح قريب من ذلك في أحدث أعمالك "جزء ناقص من الحكاية".

سؤال لافت، لأنني فعلًا شعرت وأنا أكتب "نساء حائرات" أنني أخرج قليلًا عن المسارات المألوفة في مشروعي الروائي، هي تعد "نوفيلا" اجتماعية، ولكن هذا الخروج لم يكن قفزًا مفاجئًا، بل أقرب إلى محاولة لفهم اللحظة الراهنة، ومواجهة الأسئلة التي أصبحت تفرض نفسها بقوة: ما الذي تغيّر؟ كيف أصبح حضور المرأة اليوم محكومًا بعيون الآخرين على الشاشة؟ كيف تصنع اللايكات أو الإعجابات شعورها بالرضا أو عدمه؟ ثلاث نساء، كل واحدة منهن تعيش انكسارها بطريقتها، لكن "السوشيال ميديا" تسكنهن جميعًا، حتى وإن بدت على الهامش، إنها تلك الخلفية المتلصصة التي لا تهدأ.

ثم جاءت "جزء ناقص من الحكاية" امتدادا لهذا الانشغال، ربما بشكل أعمق وأكثر سوداوية. هناك البلوغر (المدوّن)، هناك الإنفلونسر (المؤثر)، هناك "فيفيان ماير" تلك المُصوّرة الخفية التي التقطت آلاف الصور ولم تعرضها على أحد، كأنها النقيض الكامل لعصر لا يرى الإنسان فيه نفسه إلا من خلال عدسة الآخر. الرواية هنا تحفر في الإحساس بالاغتراب، بالخذلان، بالتمزق بين الوجود الحقيقي والافتراضي. ما القيمة التي يحملها العمل؟ من يصنع معنى الإبداع: الموهبة أم عدد المتابعين؟

وأظن أن هذه مفارقة قاسية نعيشها اليوم: لم يعد السؤال "ما الذي تكتبه؟"، بل "كم عدد من يتابعك؟"، وهذا يفتح الباب على مصراعيه لشهرة قد لا تستند إلى أي عمق للأسف.

روايتك (أنت تشرق.. أنت تضيء) بجائزة كتارا للرواية العربية.
رواية "أنت تشرق.. أنت تضيء" للكاتبة سارة عدلي الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية (الجزيرة)

بالتزامن مع الأحداث الساخنة في قطاع غزة وجنين وغيرهما من الأراضي الفلسطينية.. كيف أسهمت روايتك "قطار الليل إلى تل أبيب" في كشف أقنعة الاحتلال؟ وما الصعوبات التي واجهتك في إنجاز هذا العمل؟ وكذلك ما أبرز الانتقادات بعد نشرها؟.

إعلان

اعتمدت الرواية على وثائق "الجنيزا" اليهودية، التي تعود إلى الدولة الفاطمية حتى عام 1948، لتسليط الضوء على نشأة الحركة الصهيونية في الشرق الأوسط، خاصة من خلال شخصية "عزرا كوهين"، مؤسس حركة "إخوان صهيون". توضح الرواية كيف أسهمت هذه الحركة في تهريب اليهود من دول عربية إلى فلسطين، وجمع التبرعات، وشراء الأراضي، مما أدى إلى تأسيس دولة إسرائيل.

وتكشف الرواية عن التحول في العلاقة بين اليهود والمسلمين بعد ظهور الحركة الصهيونية، إذ بدأت الكراهية والانقسام تحلّ محل التعايش السابق. واجهتني بعض التحديات في بناء شخصية عزرا كوهين، فهي شخصية معقدة تتطلب دقة في رسمها، كان يجب أن أعيش في شخصية هذا الرجل وأقتبس حياته في هذا التوقيت من الزمن، حتى أستطيع أن أرسم شخصية حيوية يتمحور العمل حولها وعنها.

استخدام وثائق "الجنيزا" تطلب بحثًا عميقًا لفهم السياق التاريخي والسياسي لتلك الفترة، والمصادر المتوفرة قليلة جدا، بالإضافة -طبعا- إلى شخصية "موسى بن ميمون"، التي احتاجت مني دراسة وبحثا. بالتأكيد كان عليّ أن أقرأ كثيرا من الكتب والدراسات عن نشأة الصهيونية، وأتفهم أسسها الخفية والفرق بينها -كحركة سياسية- وبين اليهودية، إذ لا علاقة لها باليهودية، وهذا واحد من الموضوعات المهمة التي تناقشها الرواية.

تلقت الرواية ردود فعل متباينة؛ أشاد بعضهم بعمقها التاريخي وسردها المتقن، بينما انتقد آخرون استخدامها الفانتازيا في بعض الأجزاء، معتبرين أنها قد تشتت القارئ عن الواقع التاريخي، ولكنها لاقت نجاحا واهتماما من النقاد والجمهور، وهذا ما يهمني.

لذلك جاءت رواية "قطار الليل إلى تل أبيب" بمنزلة محاولة جريئة لكشف الجوانب الخفية من تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، مستندة إلى وثائق تاريخية وشخصيات معقدة، وهي رواية مهمة وتجربة أفخر بأنني أنجزتها؛ ففي الوقت الذي يخاف أناس من إبداء رأيهم حتى بمنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبتُ رواية كاملة.

فازت روايتك "أنت تشرق.. أنت تضيء" بجائزة كتارا للرواية العربية.. لكِ تصريح قلت فيه إن "الجائزة لا تصنع الكاتب، وإنما يحدث العكس".. في هذه النقطة تحديدا ما نصيحتك لمن يتهلفون لاقتناص الجوائز؟ وهل الجوائز -والكبرى منها بدرجة أخص- تجعل الأديب يتردد في طرح أعماله الجديدة؟

نعم، هذا حقيقي، "فالجائزة لا تصنع الكاتب، بل الكاتب هو من يصنع الجائزة".. هذا التصريح يعكس قناعتي بأن قيمة الجائزة تأتي من جودة الأعمال المرشحة والفائزة، وليس العكس.

أنصح الكتّاب الذين يسعون وراء الجوائز بالتركيز على تطوير مهاراتهم الأدبية والاهتمام بجودة العمل، بدلاً من اللهاث وراء الجوائز. فالجوائز رغم أهميتها، ليست الهدف النهائي للكاتب، فما قيمة الحصول على جائزة ومن ثَم الاختفاء التام أو عدم وجود منجز يتحدث بدوره عنا؟! لذلك بالرغم من أهمية الجوائز، يجب أن لا تكون الهدف الأساسي للكاتب، فالنجاح والتحقق الجماهيري أهمّ بكثير.

أما عن تأثير الجوائز الكبرى على الأديب، فقد أشرتُ إلى أن الفوز بجائزة مرموقة قد يضع الكاتب تحت ضغط لتقديم أعمال توازي أو تتفوق على العمل الفائز، مما قد يؤدي إلى تردد في طرح أعمال جديدة.

في النهاية، أؤمن بأن الجوائز ليست سوى محطة في مسيرة الكاتب، وأن الاستمرار في تقديم أعمال ذات جودة عالية هو السبيل الحقيقي للنجاح الأدبي.

حازت رواية "شغف" على النصيب الأوفر من الترجمة.. هل توجد ترجمات لأعمال أخرى قريبا؟ ومن خلال تجربتك الإبداعية.. ما المقومات التي تُعزز فرص ترجمة الأدب العربي وتوسيع رقعة انتشاره وتأثيره؟

بخصوص الترجمة نعم، رواية "شغف" لها نصيب كبير من الترجمة، وتُرجمت رواية "أنت تشرق.. أنت تضيء" إلى الإنجليزية، وخلال وجودي هذه الفترة في فرنسا أحاول أن ألتقي بمسؤولين في دُور نشر فرنسية لهم تعاون مع دور النشر التي أنشر فيها، لمناقشة ترجمة بعض أعمالي إلى الفرنسية.

أما عن تعزيز فرص ترجمة الأدب العربي، فإن هناك عدة عوامل مهمة:

الأدب العربي يتناول قضايا إنسانية شاملة تجذب القراء عالميًا، ويجب على دور النشر العربية تعزيز الترجمة والتعاون مع دور نشر أجنبية. أيضا، هناك جوائز -مثل جائزة البوكر، وكتارا، وغيرهما- تسهم في نشر الأدب العربي.

كما يجب أن نعلم أن الأعمال التي تعكس قضايا مجتمعية وتغوص في البيئة تسهل ترجمتها وانتشارها. المشكلات والحروب وموضوعات حقوق الإنسان كلها تلفت نظر العالم الغربي. وفي النهاية، الترجمة جسر حيوي لانتشار الأدب العربي عالميًا وزيادة تأثيره.

بتفعيل المفارقات الزمنية.. لو أتيح لكِ الانتقال إلى أجواء رواية عالمية ما، أي الروايات تختارين؟ ولماذا؟

لو أتيح لي الانتقال عبر المفارقات الزمنية إلى أجواء رواية عالمية، لاخترت البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، ليس فقط لأنها عمل أدبي بالغ العمق، بل لأنها رواية تحتفي بالذاكرة والتفاصيل الهاربة، وتتيح للقارئ أن يعيش عوالم متداخلة من الزمن، تمامًا كما يفعل الكاتب حين يعيد ترتيب لحظات حياته عبر الكتابة.

تأثرت كثيرًا بأعمال بروست، وكذلك فيرجينيا وولف، تولستوي، كافكا وموديانو، لأنهم كتبوا عن الإنسان في جوهره، وتركوا فجوات للقارئ ليفكر ويعيد التأويل. هذا النوع من الأدب يجعلنا نعيش داخل النص لا خارجه، ويمنحنا تلك المفارقة الجميلة: أن نغادر واقعنا لنصير أكثر وعيًا به.

ينفعل بعض الأدباء بالمواقف المحيطة -جائحة كورونا مثالا- ويقدمون أعمالا تتناوشها أقلام النقاد والقراء على السواء.. ما تعليقك؟

أعتقد أن تفاعل الأديب مع الأحداث المحيطة به أمر طبيعي، بل وضروري أحيانًا، لكن الفيصل هو كيفية ترجمة هذا التفاعل إلى نص أدبي. حين تكون الكتابة ردَّ فعل مباشرا لموقف طارئ كجائحة كوفيد-19، قد تُكتب تحت وطأة الانفعال اللحظي، وهذا ما يجعل بعض الأعمال تبدو أشبه بتوثيق آني أكثر من كونها أدبًا متجاوزًا لزمنه.

الأدب لا يُقاس فقط بموضوعه، بل بقدرته على البقاء، وقول ما لا يُقال، وعلى تحويل الخاص إلى كوني. لذلك، فإن العمل الذي ينجح في استيعاب الأزمة وتقطيرها فنيًا سيبقى، بينما تتوارى الأعمال التي كُتبت على عجل، ولو أثارت ضجيجا وقت صدورها.

في
عنوان رواية "قطار الليل إلى تل أبيب" يجمع بين حركة الزمن والمكان ويضفي على الرواية غموضا حول الوجهة النهائية (الجزيرة)

الكتابة التاريخية تشبه بدرجة ما المشي على الحبل.. يسعى المبدع إلى بلوغ درجة الصدق الفني وعدم السقوط في متاهات التزييف التاريخي.. كيف يمكن ضمان ذلك؟

نعم، الكتابة التاريخية تشبه إلى حد كبير المشي على الحبل المشدود؛ فالمبدع مطالب بأن يظل وفيًّا للحقائق، لكنه في الوقت عينه يملك حرية الخيال التي لا تتعارض مع جوهر التاريخ، بل تسعى إلى إضاءة مساحاته المظلمة، وإعطاء صوت لمن هُمّشوا في الأحداث الكبرى.

أنا شخصيًا أكتب في زمنين متداخلين، وهذه تقنية تمنحني قدرًا كبيرًا من المرونة السردية؛ إذ أتمكن عبرها من خلق حوار حيّ بين الماضي والحاضر، وتفكيك اللحظة التاريخية عبر منظور إنساني. أتعامل مع المصادر بحذر ووعي، وأعيد تفكيكها لا تكرارها، لأنني لا أكتب التاريخ كما كُتب، بل كما يجب أن يُروى: برؤية تحفر تحت السطح وتستنطق الصمت.

هذا السؤال يتعلّق بسابقه، بصفتك روائية باحثة في تاريخ الفن.. هل شعرت أن تداخل البحث الأكاديمي أضرّ بكتابة بعض أعمالك؟

سؤال مهم، لأنه يلامس التوتر الخفي بين البحث والخيال. في تجربتي، لم أشعر أن البحث الأكاديمي أضر بالكتابة الروائية، لكن لا أنكر أن هناك لحظات كان فيها ثِقل المادة المرجعية يوشك أن يُغرق النص. لهذا، أتعامل مع البحث كمادة خام لا كغاية؛ لا أتركه يفرض سلطته على الرواية، بل أُخضعه لحاجات السرد. أبدأ دائمًا بالقراءة الموسعة، خاصة عندما أكتب عن شخصيات مثل "زينب البكري"، أو "حسن البربري"، أو موضوعات تتطلب خلفية فنية دقيقة كما في رواية "وجوه الفيوم"، لكن بعد ذلك أتحرر من البحث لأصغي إلى الصوت الداخلي للنص.

في "وجوه الفيوم"، على سبيل المثال، كان البحث في تاريخ فن البورتريه الجنائزي وتفاصيل المجتمع الروماني-المصري في تلك الحقبة أمرًا أساسيًا. قرأت الكثير من الدراسات الأثرية والفنية، وشاهدت عشرات الصور والتحليلات التقنية للوحات الفيوم.

لكن ما إن بدأتُ الكتابة، حتى تركتُ كل ذلك في الخلفية، وركزت على إعادة خلق عالم المرأة التي تُرسم على اللوح الخشبي. لم تكن غايتي تأريخ الحدث، بل التقاط لحظة إنسانية؛ الخوف، الحنين، الرغبة في الخلود.. أردت أن أجعل القارئ يشعر بأن تلك اللوحة تنظر إليه، تسأله، تحكي له.

البحث كان خيطا سريًّا يربط النص، لكن السرد اختار الشكل والصوت والإيقاع. بهذه الطريقة أحافظ على توازن دقيق: المعرفة دون ثِقل، والخيال دون انفصال عن الجذر التاريخي.. التحدي الحقيقي أن تكتب نصًا يستند إلى أرضية معرفية صلبة، دون أن يُشعر القارئ بوطأة المراجع، وأن تظل اللغة حيّة لا تقريرية، وأن تبقى الشخصيات نابضة لا مجرد تجسيد لمعلومة تاريخية.

العناوين المخادعة أو المُواربة جريمة صحفية لكنها في الأدب ليست كذلك، ويمثل العنوان العتبة النصية الأولى للعمل الأدبي.. كيف تختارين عناوين أعمالك؟ ولماذا؟

بالطبع، يجب أن لا يكون العنوان صريحًا؛ ففي الأدب؛ العنوان نوع من الفن نفسه، وله القدرة على أن يحمل بين طياته الغموض والتشويق دون أن يكشف كل شيء. العنوان يجب أن يكون مفتاحًا لولوج عوالم الرواية، ولكن لا ينبغي أن يفضح كل تفاصيلها في البداية.

على سبيل المثال، في "شغف"، اخترت هذا العنوان لأنه يعكس ذلك الإحساس العميق والمركب بالحب والرغبة والانجذاب، لكن دون أن يقدم تفاصيل القصة أو يحدد مكانها الزمني والمكاني. العنوان يعطي انطباعًا عن العاطفة المتصاعدة التي ستتخلل الرواية، ولكنه يظل مفتوحًا أمام العديد من التفسيرات.

أما في "قطار الليل إلى تل أبيب"، فالعنوان يجمع بين حركة الزمن والمكان ويضفي على الرواية غموضًا حول الوجهة النهائية.. لا يحدد مباشرةً السياق السياسي أو الاجتماعي، بل يحفز القارئ على التساؤل عن القصة وأبعادها من خلال الرحلة نفسها.

وفي "أنت تشرق.. أنت تضيء"، اخترت هذا العنوان ليكون بمنزلة إشارات مضيئة للموضوعات الرئيسية في الرواية؛ النور، الهداية، التأثير والظلال التي تلاحق الشخصيات.. العنوان هنا يدندن حول ثنائية النور والظلام، ويستدعي داخل القارئ علاقة التفاعل بين ما يراه وما لا يراه.

في رأيي، الهدف من اختيار عنوان غير صريح هو إعطاء القارئ فرصة لاكتشاف الرواية بشروطه الخاصة، من خلال التفاعل مع النص بشكل أكثر عمقًا ومرونة، وليس فقط من خلال ما يقدمه له بشكل مباشر في البداية.

بتعبير محمود درويش "أرسمهم فأصبح واحدا منهم".. أي شخصيات أعمال رشا عدلي أقرب إلى قلبها؟! وموقفك من قضية النِّسوية واضطهاد المرأة وتصنيف الكتابة بين ذكورية ونسوية؟.

بخصوص قضية النِّسوية، أؤمن بأن كل امرأة هي صوت في ذاتها، وكل شخصية -سواء أكانت نِسوية أم غير ذلك- تعبير عن حالة اجتماعية ونفسية قد تمثل جزءًا من نضج المجتمع بأسره.

الكتابة النِّسوية ليست مجرد رد فعل على أوضاع المرأة، بل هي طريقة لطرح أسئلة أعمق حول الإنسانية بشكل عام. الكتابة النِّسوية موقف فكري وعملية تعبيرية عن واقع معين، خاصة في المجتمعات التي لا تزال تعاني من تمييز ضد النساء.

لكن في النهاية، لا أعتقد أن الكتابة يجب أن تقتصر على نوع واحد أو توجّه واحد، سواء كان نِسويًا أو غيره. الكتابة في المقام الأول انعكاس للواقع الإنساني بكل تعقيداته، والنسوية جزء من هذا الواقع، مثلها مثل أي قضية اجتماعية أو نفسية أخرى.

تحلّين ضيفة دائما على المعارض العربية.. ومؤخرا حضرت معرض باريس للكتاب الذي أقيم منتصف أبريل/نيسان الماضي.. أخبرينا عن هذه الزيارة.

كانت تجربتي في "معرض باريس للكتاب 2025" فرصة رائعة للتفاعل مع الأدب العالمي. المعرض الذي أقيم في القصر الكبير بالعاصمة الفرنسية جذب انتباه الزوار من مختلف الجنسيات، وكان التركيز على الأدب العربي يبرز بوضوح، مما أتاح لي تبادل الأفكار مع كتّاب من جنسيات مختلفة.

زيارتي لمعرض باريس كانت تجربة مميزة ومثمرة، وذلك لأني عاشقة للأدب الفرنسي، وخاصة أدب كاتبي المفضل "باتريك موديانو"، إذ كان من الرائع شراء عمله الجديد وعدد من أعماله التي تعكس عمق التجربة الإنسانية والذاكرة.

عشتِ في عدد من المدن حول العالم.. كيف أثّر ذلك فيك؟ وما الذي أضافه وجودك حاليا بالعاصمة الفرنسية؟

نعم، كانت لي فرصة زيارة والعيش في مدن عديدة، لكن أكثر ما أثّر فيّ على الصعيدين الإنساني والإبداعي، كان العيش في مدن ذات طابع تاريخي وثقافي عميق مثل القاهرة التي ولدت وكبرت فيها، وإسطنبول وباريس. كل مدينة من هذه المدن تركت أثرًا مختلفًا في داخلي، وأغنت رؤيتي للعالم وللكتابة على حد سواء.

أما وجودي الحالي في باريس، فقد جاء بعد اختياري للانضمام إلى مشروع بحثي وأكاديمي وفني دولي، أعمل فيه إلى جانب مجموعة من الباحثين والمؤرخين من خلفيات متعددة. المشروع يُعنى بإعادة قراءة التاريخ البصري والثقافي من خلال الفن، وهو من التجارب التي أعتز بها على المستوى المهني والفكري.

باريس لا تُشبع فقط شغفي الفني، بل تُغذّي أيضًا الجانب الأدبي في داخلي. خلال زيارة سابقة -منذ سنوات عدة- إلى متحف اللوفر، ألهمتني لوحة معلّقة لرجل يُدعى "حسن البربري" بكتابة رواية "آخر أيام الباشا"، وبعد بحث معمّق، اكتشفت أنه شخصية حقيقية لها سيرة مؤثرة وحكاية طويلة.

وفي هذه المرة سافرت إلى مدينة تقع في شمال باريس، وبها دارت أحداث مهمة ضمن روايتي الجديدة، المبنية على وقائع تاريخيّة موثقة، وزرت مواقع مهمة جرت فيها أحداث الرواية، ولها دور كبير في مجرى الأحداث. وهكذا يمكنني القول إن المدن عندي ليست مجرد أمكنة، بل إنها أطر سردية نعيش فيها ونكتب من خلالها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق