رحيل الفلسطيني محمد لافي.. غياب شاعر الرفض واكتمال "نقوش الولد الضال" - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رحل الشاعر الفلسطيني محمد إبراهيم لافي أخيرا في مخيم حطّين (شلنّر سابقا) قرب العاصمة الأردنية (27 حزيران يونيو/حزيران 2025) بعد رحلة شاقة في الحياة والشعر وانتظار النهايات، وبعد مواجهات مع الذات، وتأملات متجدّدة في مسيرة الجماعة. وترك لافي أخيرا دواوينه البديعة لتظل شاهدا على شاعر عاش حياته كما يريد، رافضا سياسة التدجين، مفاخرا بتمسّكه بالرفض والرصيف والانتصار للهامش والمخيم والشهداء والفقراء.

لقد كثّف شعر لافي صورا من سيرة الذات مقرونة بآلام فلسطين وحياة شعبها، وظل محتفظا بنبرة الصدق والطفولة التي تتأبى على التكيف مع تحولات السياسة وتبدلات النظر إلى فلسطين، فظل التعبير الشعري عند لافي تعبيرا يجمع بين الوضوح وصراحة النقد لمن بدّلوا البوصلة، أما هو فلم يعرف إلا وطنا واحدا انتزع منه ذات ليل، وظل طوال حياته ينتظر العودة ويسجل أشواقه له في قصائد مكثّفة تجمع تفاصيل متشعبة: كالتعبير عن الهم الفلسطيني، همّه الخاص الذي يختلط فيه التعبير الذاتي والعام. وإلى جانب ذلك حرص لافي على تطوير قصيدته لتمتلك خصوصيتها في ظل اتساع الشعر الفلسطيني والعربي وتعدد نبراته واتجاهاته، فنجح في تطوير بلاغة نادرة لقصيدة الفكرة والمعنى، بتوظيف تقنيات فنية تجمع بين الوضوح والبلاغة والحجاج النقدي، إلى جانب توظيف السيرة الذاتية، ودمجها في التعبير الجماعي، وقد تميز بقصائده القصيرة التي شكلت مادة معظم مجموعاته الشعرية المهمة.

رحلة التهجير والحياة:

ولد شاعرنا في قرية حتّا قبيل النكبة عام 1946، وهي قرية من قضاء غزة (جنوب فلسطين، قريبة من الفالوجة) وقد طردت العصابات الصهيونية أهلها جميعا منها في هجرة جماعية ليست ضربا نادرا في المأساة الفلسطينية المعاصرة، فانضمت حتّا إلى القرى المهجرة التي لم يبق منها إلا أطلالها، بعدما دمّرها الاحتلال عام 1948، وكانت ضمن مسؤولية الجيش المصري عام النكبة، ويذكر عبد الناصر في يومياته عن حرب فلسطين 1948 أن كتيبته عسكرت في الفالوجة وحمتها إلى حين.

إعلان

ويذكر المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي أن حتّا "كانت تنتشر على شكل متشابك مستطيل إجمالا، ومنازلها مبنية بالطوب. وكان فيها مدرسة ابتدائية فتحت أبوابها عام 1923 وكان يؤمها 73 تلميذا أواسط الأربعينييات. وكانت تقع ضمن نطاق الفالوجة الإداري، وتعتمد عليها في تلبية حاجاتها للخدمات. واحتلت أثناء عمليات لواء غفعاتي على الجبهة الجنوبية خلال الأيام العشرة بين الهدنتين (8-18 يوليو/تموز 1948). وقد دعت أوامر العمليات إلى طرد المدنيين بحجة منع تسلل العدو.." (وليد الخالدي، كي لا ننسى-قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 3، بيروت 2001، ص 535).

وضمن هذا الطرد الجماعي هاجر لافي طفلا مع أسرته إلى الجزء الآخر من فلسطين (عرف لاحقا باسم الضفة الغربية) واستقروا في مناطق مختلفة حتى وصلوا أخيرا إلى قرية العوجا بمنطقة أريحا في الغور الفلسطيني المجاور لنهر الأردن. وفي أريحا بدأ تشكل وعيه وشخصيته كما تشكلت ذكرياته الأولى التي ظلت قصائده تعيد استحضارها وإحياءها حتى المرحلة الأخيرة من حياته، فأريحا وقراها ومخيمات لجوئها شكّلت ذاكرة طفولته وصباه وشبابه المبكر، ومثّلت له صورة باقية ظلت تعاوده بلا انقطاع، كأنه ثبت نفسيا عند تلك المرحلة التي تمثل مفتاحا أساسيا من مفاتيح قصيدته وفهم ترجيعاتها.

وأكمل لافي مراحل تحصيله المدرسي في مدرسة عقبة جبر (قرب أريحا) عام 1965 وهي أحد أكبر المخيمات الفلسطينية التي أقيمت بعد نكبة 1948، وفي مدرسة هذا المخيم كانت دراسة لافي ومرحلة تكونه الشعري والوطني. ففي المخيم تربية ثقافية وسياسية ووطنية، من خلال كثرة التنظيمات وحيوية حركتها، وفيه اهتمام بالقراءة والثقافة والتعليم، باعتبار ذلك أحد سبل التقدم والخروج من مأزق الهزيمة، إلى جانب طبيعة الحياة الفلسطينية التي كانت تفور بالغضب والتطلع إلى مواجهة آثار النكبة والخروج منها، مما أسهم في تكوين لافي وتكوين جيله، ودفعهم للانتماء إلى ثقافة المقاومة التي نعدّها أحد أبرز تجليات التحرر الوطني الفلسطيني في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وقد نضجت تلك الثقافة وتجلّت فيما يعرفه القارئ من شعر المقاومة وأدب المقاومة الفلسطيني بنماذجه الرفيعة في الشعر والنثر.

لافي ومرايا أمجد ناصر:

انتقل لافي بعد نكسة يونيو/حزيران 1967 إلى الأردن، وعمل في التعليم مدرّسا  للعربية استنادا إلى قدراته الأدبية الذاتية، فدرّس هذه اللغة في مدارس مدينة الزرقاء (مدرسة الفلاح الثانوية الخاصة). وفي هذه المرحلة كان من تلاميذه طالب نابه مهتم بالشعر هو يحيى النميري الشاعر الأردني المعروف لاحقا باسم أمجد ناصر (1955-2019). وقد سجّل ناصر في مرحلة لاحقة ذكرياته عن تلك المرحلة ورسم صورة دالة عن الشاعر محمد لافي معلم العربية آنذاك، ومنها قوله:

الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر من رواد الحداثة الشعرية وأحد رموز الصحافة الثقافية بالعالم العربي (الجزيرة)

"أواخر العام 1973 سأعرف من محمد إبراهيم لافي، خارج إطار الصف الدراسي، أن ثمة ثورة حدثت في الشعر العربي أواخر الأربعينيات ونقلت القصيدة العربية الحديثة إلى طور جديد. كان محمد إبراهيم لافي شاعرا معترفا به في ذلك الوقت أصدر ديوانا شعريا في الأردن بعنوان (مواويل على دروب الغربة) وقد بدت لي غربته حقيقية تماما، ليس لكونه نازحا من غزة وبلا أهل في الزرقاء، بل لسبب أعمق من ذلك فخلف نظارتيه السميكتين كانت له عينان حزينتان ووجه صغير منقبض الملامح، وسيجارة مدخنة، أبدا، يتشبث بها بقوة، بأحد طرفي فمه. لا أعلم ما هو تحصيل لافي العلمي، آنذاك، ولكنه على الأغلب لم يكن جامعيا، ويبدو أن قدراته الأدبية هي التي جعلت مدرسة الفلاح الثانوية تعينه مدرسا للغة العربية. يخالجني شعور الآن أن لافي لم يكن يهتم بوظيفته هذه سوى كونها مصدرا للعيش، فلا أتذكره متحمسا للتدريس، ولعله في سرحاته المديدة في الصف كان يفكر في قصيدة جديدة، أكثر مما يفكر في الدرس الذي يلقيه، خصوصا وأن القصيدة تبدأ عنده بدندنة مبهمة. بالمصادفة سيكون أحد طلابه لأقل من عام شابا يضيق بالدرس ويهتم بما يقوله لافي خارج الصف أكثر مما يقوله داخله، ويشخص مثله إلى بعيد وغامض لم يعرف حتى تلك اللحظة ما هو؟".

إعلان

وانتقل لافي عام 1976 إلى العاصمة السورية وأقام فيها عدة سنوات، والتحق بالمقاومة الفلسطينية في لبنان عاما واحدا هو عام الخروج من بيروت عام 1982، ثم عاش مجددا في سوريا لعدة سنوات حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وعمل خلالها في الصحف والمجلات الفلسطينية التي كانت تصدر في دمشق آنذاك. وآب من جديد ليستقر في الأردن منذ بداية تسعينيات القرن العشرين حتى رحيله النهائي. وخلال هذه السنوات التحق بالعمل في الإذاعة الأردنية عام 1996 معدا ومقدّما للبرامج الثقافية، منها برنامج "شاعر وقضية" وذلك بعد إضراب شهير رعته رابطة الكتاب الأردنيين، وشارك فيه عدد من الكتاب الذين أعلنوا الإضراب عن الطعام في مبنى الرابطة اعتراضا على ما آلت إليه أحوالهم وعدم تأمين وظائف لائقة بهم. كما شارك لافي طوال هذه السنوات في النشاط الفكري والثقافي، فكتب في الصحف والمجلات، وشارك في اللقاءات الأدبية والثقافية، إلى جانب دعمه وتشجيعه للأصوات الأدبية والشعرية الجديدة.

وقد منحته رابطة الكتاب الأردنيين جائزة عبد الرحيم عمر لأفضل ديوان شعر عربي عام 1996 عن مجموعته "أفتح بابا للغزالة" ونال أيضا منحة التفرغ الإبداعي من وزارة الثقافة الأردنية وأنجز ضمنها ديوانه المتميز "ويقول الرصيف" المنشور عام 2010.

مسيرة شعرية حافلة:

يعد لافي من أبرز الشعراء الفلسطينيين، من خلال دواوينه التي تتابعت في الصدور منذ بداية سبعينيات القرن العشرين حتى العام الأخير قبل رحيله، ويضاف إلى ذلك أنه تميز بصوته الخاص، وبنبرة ناقدة ساخرة أقرب إلى الاعتراض والمناكفة في مواجهة تقلبات السياسة الفلسطينية، فهو شاعر الرفض الذي لم يتخل عن إيمانه بالمقاومة على مر السنين.

أصدر لافي في مسيرته الأعمال الشعرية الآتية:

مواويل على دروب الغربة، مطبعة عمان، عمان، 1973. الانحدار من كهف الرقيم، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 1975. قصيدة الخروج، دار الحوار، اللاذقية، 1985. نقوش الولد الضال، اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، دمشق، 1990. مقفّى بالرماة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993. أفتح بابا للغزالة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996. لم يعد درج العمر أخضر، وزارة الثقافة، عمان، 2005. ويقول الرصيف، وزارة الثقافة، عمان، 2010 (وهو ضمن إصدارات مشروع التفرغ الإبداعي). غيم على قافية الوحيد، اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله، 2024.

كما صدر له مجلد الأعمال الشعرية عن بيت الشعر الفلسطيني عام 2011، وضم أعماله الشعرية باستثناء الديوان الأخير.

ولطالما كانت السيرة الذاتية منجم لافي الذي يستمد منه منابع شعره الجميل، ولذلك فهو يستعيد حياته ويفككها ويتأملها مثالا لحياة الإنسان الفلسطيني على الصعيد الخاص والعام، يقول في حوار صحفي:

"تمر مقاطع حياتي كشريط سينمائي طويل، الوجوه، الأمكنة، الأحداث. ويتقاطع هذا الخيط السيري مع مواجهة الموت، في إطار الحياة الفلسطينية بعامة، وفي إطار شخصي: يشمل ذلك: ضياع الحب الأول الذي ما زال يحفر عميقا، ويترك بصمته على الروح، موت أبي وأمي بدون أن ألقي عليهما نظرة الوداع، وكذلك أختي الوحيدة، ثم رحيل زوجتي المبكر بمرض السرطان، خسارات الأصدقاء إما بتغييب الموت لهم، أو بخيانتهم لقناعاتهم.. هزيمة المقاومة الفلسطينية وخروجها من بيروت، وما تلا ذلك من انشقاقات وقتال بين فصائلها وانهيارات سياسية طالت حركة التحرر العربي برمتها".

وهذه الأحداث والتفاصيل العامة والخاصة تركت أساها ووقعها على النبرة الشعرية للافي، فمال في بعض شعره الأخير إلى ضرب من الرثاء الذي يكثف ألوانا من الألم، ولكنه يأبى الاستسلام، ويواصل الصمود مهما يكن الثمن مكلفا، فيفاخر برفضه وصموده، ويسخر من المثقفين المتحولين والمتلونين بحسب متطلبات المرحلة، ويهجوهم دون شفقة.

وفي المستوى الجمالي والفني يمكن الإشارة بإيجاز إلى دور لافي في تطوير بلاغة خاصة للقصيدة القصيرة، منذ ديوانه "نقوش الولد الضال" وعلى امتداد دواوينه اللاحقة، فقد استقر التعبير الشعري عنده في بنية القصيدة القصيرة التي تميل إلى الاقتصاد اللغوي، وإلى البنية الموسيقية الجاذبة بما فيها من إيقاع ومن بلاغة التقفية، وإلى التركيز على المطالع والخواتيم أو القفلات البليغة، وعلى توظيف عناصر المفارقة والسخرية، وألوان من الثقافة الشعبية السردية والقولية، مع انتصار ووفاء خاص لعالم المهمشين، مما يعبر عنه بمجاز الرصيف كمكان جانبي أو هامشي "ديوان: يقول الرصيف مثلا" وغالبا ما تنهض تلك القصيدة على أحد خيوط السيرة ولكنه ينقله باقتدار من بعده الذاتي إلى بعده العام عبر آليات متعددة منها تقنية المرآة التي تعد آلية شعرية ونفسية في الوقت نفسه، تذكر بمبدأ "التثبيت" ذي الأصل الفرويدي، وبمرايا جاك لاكان من ناحية ثانية.

وإلى جانب ذلك أجاد لافي لغة الحجاج والنقد السياسي مع المحافظة على عمق القصيدة وديمومة جمالها وتأثيرها، ولكنه في كل حال لا يميل إلى الأساليب الموغلة في الغموض والتعمية، وإنما يميل إلى مدرسة البلاغة الواضحة التي تجمع بين الإيصال والجمال، فهو في أول الأمر وآخره شاعر ينطلق من رسالة يؤمن بها، وليس اتجاهه إلى الشعر إلا طلبا لإبلاغ تلك الرسالة التي يجمع فيها خيوط حياته الشخصية مع حياة شعبه وجماعته، فيكتب في كل قصيدة أو برقية لمحة من تلك الحياة الشاقة الصامدة.

إعلان

محمد لافي.. سلام عليك:

وما من خاتمة أجدر في وداع لافي غير قصيدته القصيرة "ليس نزقا" التي يخاطب فيها قرينه أو ذاته فيقول:

 

"سلام عليكْ
سلام على كل مرحلة حلّفت وشمها الأبديّ
على ساعديك
سلام على طائر لا يحطّ على كتفيكْ
سلام على الأصدقاء تجمّعهم واحدا واحدا
ثم ينسربون كما الرمل من راحتيكْ
سلام عليك تجمّع أحزانك الشاردات
وتفتح بوابة الأسئلةْ
سلام عليك هنا شاهدا وشهيدا
بغرفتك المقفلةْ
سلام على وسخ المرحلةْ"

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق