في كل منعطف حاد من منعطفات الشرق الأوسط، تظهر لوحات سياسية تذكّرنا بأن ما يُرسم في العلن ليس سوى غطاء لخرائط سرية تُعدّ خلف الكواليس. وعلى أنقاض حروب لم تُطفأ نيرانها بعد، يُدفع نحو ترتيبات تُسمّى "تحالفات الأمن الإقليمي"، ولكنها في جوهرها صيغ جديدة لتقاسم النفوذ وإعادة هيكلة المنطقة وفق موازين قوى تتبدّل بسرعة.. .،
المشهد الذي يتكرر مؤخرًا في إسرائيل - تلك الدولة التي وُلدت من رحم صراع دموي طويل - هو إعلان دعائي ضخم يضم وجوهًا لزعماء من الخليج والمشرق، يجلسون تحت سقف واحد إلى جوار رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مشهد يبدو وكأنه احتفاء رمزي بـ"نهاية العداء التاريخي"، أو هكذا يُراد له أن يُفهم.. .،
لكن خلف هذا المشهد الهادئ، تبرز الكثير من الأسئلة:
من يرسم هذا السلام؟
ومن يدفع ثمنه؟
وهل هو سلام حقيقي أم هدنة طويلة مفروضة بفعل المصلحة لا القناعة.. .؟
-في فلسفة ما بعد الحرب، يُقال إن الأطراف المنهكة هي الأقدر على القبول بالتسويات. وفي منطقتنا، باتت الشعوب مغيّبة عن هذه التسويات التي تُعقد فوق رؤوسها. من سوريا المنهكة بجراحها، إلى لبنان الذي يسير على حافة الانهيار، إلى فلسطين التي تتآكل قضيتها تحت وهم "الفرص الاقتصادية"، نجد أنفسنا أمام إعادة تدوير لخرائط سايكس- بيكو، لكن هذه المرة بإخراج إعلامي حديث، وشعارات براقة مثل "الاتفاقيات الإبراهيمية" أو "السلام الإقليمي".. .،
إن ما يحدث اليوم هو جزء مما يُسمى في علم الجيو سياسة بـ"سلام الضرورة"، ذلك النوع من السلام الذي لا ينبع من رغبة الشعوب أو عدالة القضايا، بل من اختلال موازين القوى وتغيّر أولويات الحلفاء.. .،
فمنذ أن بدأت إدارة ترامب الدفع نحو تطبيع إقليمي تحت عباءة التحالفات الأمنية، اتسعت دائرة التطبيع لتشمل عواصم لم تكن تتخيل يومًا أنها ستضع يدها في يد تل أبيب، في ظل تغييب كامل للمطالب التاريخية للشعوب، وعلى رأسها الحقوق الفلسطينية.. .
في هذا السياق، تُستخدم الرموز واللوحات الإعلامية كأدوات ضغط نفسي، لترسيخ صورة "التحالف الكبير" الذي يجمع أعداء الأمس كأصدقاء اليوم، بينما الحقيقة تقول إن الحروب لم تنتهِ، واللاجئين لم يعودوا، والقدس لم تتحرر.. .،
--إننا نشهد لحظة مفصلية، ليس في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي فحسب، بل في مسار استقلالية القرار العربي ذاته. فحين يصبح الأمن الإقليمي مرهونًا بإرادة تل أبيب وواشنطن، فإننا أمام مشهد جديد يُعاد فيه ترتيب الأدوار، وتُسحب أوراق اللعبة من يد العرب لتستقر في يد من يملكون مفاتيح التكنولوجيا والسلاح والتأثير الإعلامي.. .،
ومن هنا، فإن اللوحات الإعلانية في شوارع تل أبيب تظل صورًا صامتة، بينما الواقع الصاخب يؤكد أن السلام لا يُولد من الإعلانات، ولا يُكتب بالحبر الدبلوماسي، بل يُصنع من عدالة، ومن اعتراف متبادل بالحقوق، ومن ذاكرة لا يمكن محوها ببساطة من شعوب لم تنسَ بعد طَعم النكبة، ولا مرارة الشتات.ـــ، !
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. !!
0 تعليق