بعد عقود من العمل خلف الكواليس، باتت المشاريع المرتبطة بتكنولوجيا الاندماج النووي، محطّ اهتمام قادة العالم ومغناطيساً لاستثماراتهم، فالاختراق الملفت الذي حققه علماء أميركيون في أواخر عام 2022، عندما تمكنوا لأول مرة من توليد "طاقة اندماج نووي" عبر تقنية الليزر، شكّل نقطة تحوّل مفصلية بالنسبة لهذه التكنولوجيا، ودفع المشككين بها إلى إعادة النظر في آفاقها المستقبلية.
ومنذ ذلك الحين، ارتفعت شهية المستثمرين والحكومات وعمالقة التكنولوجيا، للرهان على هذه التكنولوجيا باعتبارها مصدر طاقة غير محدود ورخيص وقليل الانبعاثات، حيث يحرص هؤلاء على امتلاك زمام المبادرة فيما يرونه فرصة استراتيجية لإعادة رسم موازين القوى في أسواق الطاقة العالمية.
وأفاد تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" اطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن هناك حالياً أكثر من 43 مشروعاً قيد التطوير حول العالم لتكنولوجيا الاندماج النووي، بإجمالي استثمارات تتجاوز 8 مليارات دولار. والملفت أن معظم هذه الاستثمارات، جاءت من القطاع الخاص خلال السنوات الأربع الأخيرة.
ولكن ورغم هذا الزخم، إلا أن تحويل تكنولوجيا الاندماج النووي إلى مصدر فعلي للكهرباء، لا يزال مهمة صعبة ومعقدة، إذ أن خروج هذه التكنولوجيا من المختبرات إلى محطات توليد الطاقة، لا يزال يتطلب سلسلة من الابتكارات الهندسية، في مجالات مثل المواد فائقة التحمل، أنظمة التبريد، وإدارة النيوترونات عالية الطاقة، ولذلك نرى أنه حتى أكثر الشركات تفاؤلاً بهذه التكنولوجيا تشير إلى أن الاندماج النووي التجاري لن يصل الشبكة الكهربائية قبل نهاية العقد، وقد يكون مكلفاً وغير مستقر في البداية.
وهذا يعني أن نجاح تكنولوجيا الاندماج النووي بالوصول إلى الشبكة الكهربائية، يعتمد بشكل كبير على خفض تكلفة الإنتاج، وقدرة البنية التحتية الحالية على التكيّف مع هذا النوع من الطاقة.
ما هي طاقة الاندماج النووي؟
في ديسمبر 2022، تحقق اختراق تاريخي في مجال الاندماج النووي في الولايات المتحدة، حين أعلنت وزارة الطاقة الأميركية أن علماء من "المختبر الوطني في لورانس ليفرمور" (LLNL) في كاليفورنيا، نجحوا لأول مرة في تحقيق "صافي مكسب طاقي" من عملية اندماج نووي، أي أن كمية الطاقة التي خرجت من الاندماج كانت أكبر من الطاقة التي استُخدمت لتحفيزه باستخدام الليزر، مما أطلق طاقة تشبه تلك التي تنتجها الشمس.
ومع أن الاندماج استمر لأقل من ثانية، إلا أن هذه النتيجة كانت تعتبر الهدف الأهم منذ عقود في أبحاث الاندماج، وأثبت أن الاندماج النووي ممكن فعلاً، ما فتح الباب أمام حلم قديم بإنتاج طاقة نظيفة، غير محدودة ولا تخلّف انبعاثات كربونية.
ما هي التحديات؟
رغم الإنجازات الأخيرة، لا يزال الاندماج النووي يواجه تحديات تقنية كبيرة، أبرزها الحفاظ على التفاعل نفسه، فالتفاعل أو الاندماج الذي تم تحقيقه في عام 2022 استمر لأقل من ثانية، في حين أن الحفاظ على هذا التفاعل لفترة طويلة من الوقت، يتطلب درجات حرارة تفوق 100 مليون درجة مئوية، ومواد تتحمل ظروفاً قاسية لم تُطوّر بعد بشكل كامل. كما أن احتواء هذا التفاعل وتحويله إلى كهرباء مستقرة وبتكلفة معقولة، يحتاج إلى ابتكارات هندسية معقّدة في مجالات مثل أنظمة التبريد، وإدارة النيوترونات، والبنية التحتية للطاقة.
من يتفوّق في هذه التكنولوجيا؟
تُعد الولايات المتحدة اللاعب الأقوى حالياً في مجال الاندماج النووي، بفضل التقدم الذي حققته مختبراتها الوطنية، ولكن السباق لا يقتصر على أميركا وحدها.
فالصين تعتبر المنافس الأكبر، إذ تستثمر مبالغ ضخمة من الأموال العامة في مشاريع طموحة، لبناء ما يُعتقد أنه سيكون أحد أقوى مفاعلات الاندماج في العالم، وحتى أكبر من المنشآت الأميركية.
وهذا السباق يعكس مخاوف حقيقية من تكرار سيناريو تقنيات الطاقة النظيفة السابقة، مثل الألواح الشمسية، حيث طوّرت أميركا التكنولوجيا لكن الصين هيمنت على السوق.
وبالإضافة إلى القوتين العظميين، تسعى دول مثل ألمانيا واليابان وبريطانيا وفرنسا إلى تطوير مفاعلات اندماج تجارية، لضمان موقع مبكر في واحدة من أكثر صناعات المستقبل الواعدة.
الرهان الجديد لأميركا
وبدأ المسؤولون في الولايات بالفعل التخطيط، لليوم الذي تصبح فيه طاقة الاندماج حقيقة واقعة، ففي حين قلّصت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعمها لمشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية، أعلن وزير الطاقة الأميركي كريس رايت، في مؤتمر عُقد في واشنطن هذا الشهر، أن الاندماج النووي وصل إلى نقطة تحوّل ستتسارع فيها الأمور، مشيراً إلى أن هذه التكنولوجيا ستُنتج طاقة بغض النظر عن الطقس أو الوقت. كما يدعم الاندماج النووي أحد أسلاف رايت، إرنست مونيز، وهو فيزيائي نووي كان مشككاً في إمكانية تسويقه تجارياً.
من جهته، يرى جريج بيفير، الرئيس التنفيذي لشركة شاين تكنولوجيز، وهي شركة اندماج نووي في ويسكونسن، أن أي شركة اندماج نووي لن تتمكن من بيع الكهرباء بشكل مربح، قبل أن تصل إلى ما يُعرف بـ "نقطة التعادل" العلمية، وهي النقطة التي يولد فيها تفاعل الاندماج طاقة أكبر من اللازم لإشعالها، مشيراً إلى أن المكان الوحيد في الولايات المتحدة الذي حدث فيه ذلك هو المنشأة الحكومية في ليفرمور، التي تستخدم نبضة ليزر، تطلق في جزء من مليار من الثانية طاقة، تفوق مقدار الطاقة التي توّلدها شبكة الكهرباء الأميركية بأكملها بـ 2500 مرة.
تشكيك علمي في الوعود
في المقابل، يشكّك عدد من الخبراء في إمكانية رؤية طاقة الاندماج النووي على الشبكة الكهربائية قبل عام 2050، فالفيزيائي جون هولدرن، الأستاذ في جامعة هارفارد والمستشار العلمي السابق للبيت الأبيض، يرى أن تحقيق ذلك لا يزال بعيد المنال، مشيراً إلى أن العلماء احتاجوا سبعة عقود فقط للوصول إلى تفاعل اندماجي واحد ناجح، بينما يتطلب تحويل هذا التقدم إلى مصدر طاقة مستدام قفزات هندسية معقدة للغاية.
من جهته، حذّر فيكتور جيلينسكي، العضو السابق في هيئة التنظيم النووي الأميركية، من أن الشركات العاملة في هذا المجال، تقلّل إلى حد كبير من حجم التحديات التقنية غير المحلولة حتى الآن.
ويضيف ميشيل كلايسنز، مدير الاتصالات السابق في مشروع "إيتر" الدولي، أن بعض الشركات تضلّل الرأي، العام من خلال تقديم وعود غير واقعية، توحي بأن طاقة الاندماج النووي باتت على بُعد خطوات قليلة، في حين أن الطريق لا يزال طويلاً وشاقاً.
لماذا تموّل الشركات تكنولوجيا لم تنضج بعد؟
وتقول مستشارة الذكاء الاصطناعي المعتمدة من أوكسفورد هيلدا معلوف، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن السبب الأول الذي يدفع شركات التكنولوجيا الكبرى، لاستثمار المليارات في الاندماج النووي، هو إدراكها أن هذا المجال يمثل الرهان الطويل الأمد الحقيقي في قطاع الطاقة، فهذه الشركات تُفكر على نطاق زمني يتجاوز العقد أو العقدين، وهي تعلم أن من يمتلك التكنولوجيا القادرة على إنتاج طاقة غير محدودة وبتكلفة منخفضة، سيكون في موقع هيمنة اقتصادية وصناعية لعقود لاحقة، مشددة على أن الاندماج النووي هو ابتكار لا يحدث كل عشر سنوات، بل ربما مرة كل قرن، ولذلك فالسباق لا يدور حول العائد الفوري، بل حول من سيبني البنية التحتية لطاقة الغد.
واعتبرت معلوف أن شركات التكنولوجيا الكبرى، تنظر إلى الاندماج النووي كأداة لتأمين موقعها في الاقتصاد الجديد القائم على الطاقة النظيفة، حيث أن الاستثمار في هذه التكنولوجيا، يُشكّل نوعاً من التحوّط الاستراتيجي، تماماً كما حدث مع دخولها إلى قطاع الفضاء أو أشباه الموصلات، فبدلاً من الاعتماد فقط على مصادر الطاقة الحالية، تسعى هذه الشركات لتنويع محفظتها، والتمركز المبكر في قطاع، يُتوقع أن يُحدث طفرة في السوق خلال العقود المقبلة، كما أنه علينا ألا نغفل أن الاستثمار في تكنولوجيا مثل الاندماج النووي، يمنح الشركات نفوذاً سياسياً وتنظيمياً غير مباشر.
فرصة ونفوذ
وتشرح معلوف، أنه عندما تستثمر مايكروسوفت أو ألفابت أو أمازون، في مشروع لتوليد الطاقة عبر الاندماج النووي، فهي لا تشتري فقط نفط المستقبل، بل هي تضع نفسها أيضاً على طاولة القرار السياسي والاقتصادي المتعلق بمستقبل الطاقة، وهذا النوع من التأثير رغم أنه غير مالي ظاهرياً، إلا أنه يترجم لاحقاً بالحصول على عقود حكومية مميزة، إضافة إلى تعزيز صورة الشركة وقيمتها السوقية، مشددة على أن شركات التكنولوجيا ترى بالاندماج النووي جزءاً من منظومة متكاملة تشمل تشغيل الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات الضخمة التي تحتاج إلى كمية طاقة هائلة، وهذا سبب آخر يدفعها كي تدخل بثقلها في هذا المجال، وذلك كنوع من تأمين استراتيجي لتوسعها المستقبلي.
عائد غير محدود
وتشرح معلوف أن الدخول في تكنولوجيا الاندماج النووي من الناحية الاستثمارية، يُعد مخاطرة محسوبة، ولكن العائد المحتمل الناتج عن نجاح هذه التكنولوجيا، يكاد يكون غير محدود، فنحن نتحدث عن سوق طاقة عالمية تُقدّر بتريليونات الدولارات سنوياً، وإذا نجحت إحدى هذه الشركات في الوصول إلى صيغة قابلة للتطبيق من الاندماج النووي، فستكون هي المزوّد الرئيسي للطاقة لعشرات الدول، وربما تستحوذ على جزء كبير من سوق الطاقة العالمي لعقود، وهذه ليست مغامرة عشوائية بل رهان استراتيجي على هيمنة طويلة الأمد.
واعتبرت معلوف أن ما يميز الاندماج النووي، هو أنه لا يهدف فقط إلى تحسين نظام الطاقة الحالي، بل إلى تخطيه بالكامل، وبناء نموذج جديد غير قائم على الوقود الأحفوري، أو حتى على البنية المعروفة للطاقة المتجددة، حيث أن من يسبق في تطوير الاندماج النووي، لن يبيع فقط الكهرباء، بل سيضع المعايير العالمية الجديدة للطاقة، ويقود سلاسل التوريد والبنية التحتية والأنظمة التنظيمية المرتبطة به، وهذا بالضبط ما تسعى إليه شركات التكنولوجيا الكبرى، أي أن تكون في مركز الثقل التالي للاقتصاد العالمي.
0 تعليق