المواطنة الرقمية.. المادة الغائبة عن مدارسنا في زمن الاقتصاد المفتوح - هرم مصر

سبق 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تم النشر في: 

24 يونيو 2025, 6:01 مساءً

لا أحد يوقّع على ميثاق عندما يخلق لنفسه هوية افتراضية، ولا أحد يخضع لاختبار أخلاقي قبل أن يدخل تطبيقًا أو يرسل تغريدة على منصات التواصل الاجتماعي، ومع ذلك، الكل هناك. نعرف أن شاشة الجوال ليست مرآة، لكنها تأخذ أكثر مما تعكس. نضع أفكارنا في العلن، نشارك الخصوصيات، نستهلك الصور، وننتج الانفعالات.. ثم نغلق الجهاز ونعود لما نظنه “الحياة الحقيقية”. لكن من قال إن الواقع محصور خارج الشاشة؟ ومن يُعلّم الأجيال كيف يكون الإنسان حاضرًا ومسؤولًا في فضاءٍ لا يُرى؟

هذا عصر لا تعيش فيه المجتمعات على الأرض فقط، بل تقيم وجودها أيضًا على الشبكة العنكبوتية، كل تفاصيل الحياة مرهونة بها: من العلاقات إلى القرارات، ومن التعلّم إلى التفاعل الاجتماعي. ومع ذلك، لم تُدرَّس المواطنة الرقمية في المدارس كما ينبغي. ما زالت تُعامل كفكرة هامشية، أو كإضافة عابرة، رغم أنها باتت جزءًا أصيلًا من تكوين الإنسان المعاصر

المواطنة الرقمية لا تعني فقط السلوك المهذب على الإنترنت، بل تتجاوز ذلك إلى إدراك الحدود الأخلاقية، والحقوق الفردية، والواجبات الجماعية. إنها وعي يتعلّق بالخصوصية، واحترام الرأي، والتثبت من المعلومة، والتفكير النقدي، والتمثيل المسؤول للذات. أن يكون الحضور الرقمي انعكاسًا للوعي، لا مجرّد تكرار لما يطلبه “الترند”.

وكما تحكم القوانين السلوك في الميادين العامة، فإن المبادئ ذاتها يجب أن ترافق الإنسان في الميادين الرقمية، لأن الوطن لا يغيب حين تُغلق الأبواب، ولا حين يُغلق التطبيق.

وما نُعلّمه في الصف عن الصدق والأمانة، يجب أن يجد امتداده في تغريدة أو تعليق أو مشاركة.

كما قيل: السلوك هو المعيار الوحيد للفهم، سواء في الطريق أو في التايملاين.

يتّضح البعد الأهم حين يُنظر إلى هذه المسألة من زاوية اقتصادية. فالعالم يعيش تحوّلات متسارعة نحو الاقتصاد الرقمي، وقد أصبحت البيانات والسلوك الرقمي والمحتوى منصات استثمار كبرى. ومع ذلك، ما زال جزء من الأجيال الجديدة يتعامل مع الفضاء الرقمي كملعب عبثي، لا كمساحة للتأثير أو الإنتاج. في عالم تتسارع فيه التفاعلات وتتشابك فيه الاهتمامات، يزداد أثر الكلمة العابرة، وتتّسع دائرة النتائج غير المقصودة. وفي الوقت الذي تزداد فيه المنصات الوطنية والمشاريع السعودية في الاقتصاد الرقمي، تتعاظم الحاجة إلى جيل يُحسن تمثيل نفسه ضمن هذه المنظومة

من هنا، تبدو فكرة “تدريس المواطنة الرقمية” في المدارس أمرًا يستحق التفكير، ولا سيما في سياق دور وزارة التعليم في مواكبة التحولات المجتمعية والتقنية. ليس من باب التخصص أو الاهتمام، بل من زاوية عامة تمليها طبيعة المرحلة. مادة أو مسار يتكامل مع جهود التعليم لبناء وعي رقمي متزن، لا يكتفي بالتقنية كأداة، بل يتعامل معها كمجال حياة ومصدر دخل، ومكان لتمثيل القيم لا استهلاكها فقط.

ومع توسع الذكاء الاصطناعي والمهن الرقمية المستحدثة، لن يكون من كماليات التعليم أن نُعلّم التعامل مع التقنية، بل من ضروراته، حتى يتمكّن الجيل من المساهمة في وظائف لم تُولد بعد، وتحديات لم تظهر بعد.

فمنذ السنوات الأولى، يبدأ التشكّل الرقمي للطفل، ولو دون وعي، ولهذا يجب أن تسبق التربية التقنية أول نقرة.

الجيل القادم لا يحتاج من يُملي عليه كيف يتفاعل، بل من يمنحه أدوات التفكير الحر والتمثيل الواعي.

وقد بدأت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة إدراج المواطنة الرقمية في مناهجها مبكرًا، إدراكًا لأثر التقنية على سلوك الأفراد وبُنية الاقتصاد.

وقد أكدت رؤية السعودية 2030 على تطوير المهارات الرقمية وتعزيز المحتوى المحلي، كجزء من بناء اقتصاد معرفي تنافسي، مما يجعل هذا المسار التعليمي خطوة طبيعية ضمن هذا التوجه الوطني.

ختام القول.. إن بناء مجتمع رقمي لا يبدأ من التقنية بل من الإنسان، ولا يزدهر بالمنصات الرقمية وحدها بل بالوعي الذي يُحسن استخدامها. وفي زمن لم تعد فيه الحدود مرئية، ولم تعد القيم محفوظة داخل الجدران، فإن التعليم يظل هو الجدار الأول والأخير. المواطنة الرقمية ليست خيارًا مستقبليًا، بل ضرورة آنية، وإذا كانت رؤية السعودية 2030 قد رهنت مستقبل الاقتصاد بالتحول الرقمي، فإن مستقبل هذا التحول مرهون ببناء جيل يعرف من هو، حتى حين لا يراه أحد.

وربما كانت أعظم المواطنة.. أن يعرف الإنسان كيف يمثل بلاده حين لا يراقبه أحد.

الصحافي: عبدالرحمن بن ناحي الايداء

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق