جيمي ماكغيفر *
يرى بعض المحللين الاقتصاديين أن عصر «الاستثناء الأمريكي» ربما ولّى، وذهب معه النظام الاقتصادي والمالي العالمي الذي قادته واشنطن على مدار الخمسين عاماً الماضية. وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً أمام المستثمرين: كيف سيُعيد الوضع الجديد تشكيل تدفقات رأس المال؟
الوجهة البارزة هي أوروبا، موطن ثاني أكبر اقتصاد وثاني أكبر عملة احتياطية في العالم، حيث الأسواق عميقة ومملوءة بالسيولة، وسيادة القانون هي السائدة. في المقابل، يبدو أن ما يُسمى «الجنوب العالمي» أقل جاذبية. فدوله المتباينة، التي يزيد عددها على 100 دولة، باستثناء الصين، تحمل في طياتها مزيجاً متنوعاً من مخاطر الأسواق الناشئة، والمخاوف القانونية، ومصداقية صنع السياسات.
لكن المشهد الاقتصادي والاستثماري العالمي يتغير بسرعة، وربما بشكل لا رجعة فيه، ويشعر المستثمرون بالقلق من أن يجدوا أنفسهم مرة أخرى مُركزين بشكل مفرط على منطقة واحدة. لذلك، قد يلجأ أصحاب النفس الطويل ومستويات المخاطر العالية منهم، بشكل متزايد، إلى زيادة مخصصاتهم لهذه الكتلة الضخمة والمتنوعة. فهل يُمكن أن تستفيد دول الجنوب من التحول العالمي في إعادة توزيع رأس المال؟
في الواقع، هذا من بين التحليلات التي توصل إليها تقرير نشره مؤخراً استراتيجيو «دويتشه بنك» بعنوان «الجنوب العالمي: نهج استراتيجي للكتلة العالمية الرابعة».
ويُعرِّف التقرير الكتلة بشكل عام على أنها الدول الأعضاء ال134 في مجموعة ال77، باستثناء الصين وروسيا وسنغافورة وعدد من الدول الأخرى، إضافة إلى المكسيك وتركيا وبعض دول آسيا الوسطى.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة تُعد موطناً لنحو ثلثي سكان العالم في سن العمل، وتُنتج 40% من الطاقة والمعادن الانتقالية الرئيسية على سطح الأرض. كما تُمثل ربع التجارة العالمية، واجتذبت ما يقرب من ربع إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد على مدى العقد الماضي. وبحسب مجموعة بوسطن الاستشارية، بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في دول الجنوب العالمي 525 مليار دولار في عام 2023، متجاوزاً الرقم المستثمر في الاقتصادات المتقدمة والبالغ 464 مليار دولار.
ورغم أنه من السابق لأوانه التنبؤ بكيفية انسجام الدول سياسياً أو اقتصادياً في السنوات المقبلة، إلا أن هناك بالفعل دلائل على دوران رأس المال نحو دول الجنوب العالمي بعيداً عن الصين. ويشير تقرير «دويتشه بنك» إلى أن الاستثمار الأجنبي في دول الجنوب العالمي ظل ثابتاً نسبياً في السنوات الأخيرة، بينما انهارت التدفقات إلى الصين إلى ما يقرب من الصفر.
وكان الصعود الاقتصادي للصين في العقود الأخيرة من أكثر التحركات إثارة للدهشة في تاريخ البشرية. ففي عام 1990، لم تمثل الصين سوى 2% من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات المتقدمة. وبحلول عام 2021، وصل هذا الرقم إلى 33%، وهو ما يكاد يطابق حصة دول الجنوب العالمي آنذاك.
لكن معدلات النمو في الصين توقفت، خاصة منذ تفشي جائحة كورونا. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تبلغ حصة البلاد من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات المتقدمة نحو 35% بنهاية هذا العقد، في حين سترتفع حصة دول الجنوب العالمي إلى مستوى قياسي جديد يبلغ 40%. ويجادل محللو «دويتشه» بأنه في حال استمرار تركيز الحرب التجارية الأمريكية على الصين قد يتطور الجنوب العالمي ليصبح مصدراً للتنويع وتوليد القيمة للمستثمرين.
ومن منظور تخصيص الأسهم، هناك مجال واسع للنمو. فقد شكل الجنوب 11% فقط من القيمة السوقية العالمية بنهاية العام الماضي، حيث استحوذت دولتان -الهند والمملكة العربية السعودية- على أكثر من نصف هذه الحصة. وإذا تراجعت هيمنة الأسهم الأمريكية -التي تمثل حالياً أكثر من 70% من القيمة السوقية العالمية- فإن أي إعادة تخصيص ولو ضئيلة للمجموعة قد يكون لها تأثير كبير على تقييمات هذه الدول.
ومع ذلك، فإن المخاطر متعددة، وظهر الكثير منها خلال اضطرابات السوق التي أثارتها رسوم ترامب الجمركية. حيث أظهرت الأرقام الصادرة عن معهد التمويل الدولي الأسبوع الماضي أن تدفقات المحافظ الاستثمارية إلى الأسواق الناشئة قد توقفت في إبريل.
وبينما تتراجع إدارة ترامب عن خطتها الأولية لفرض رسوم جمركية هائلة على معظم دول جنوب شرق آسيا، مع هدنة اقتصادية ل90 يوماً مع الصين، لا يزال المستثمرون قلقين بشأن ضخ رؤوس أموال طائلة في دول قد تقع في مرمى نيران الولايات المتحدة.
وأوضح معهد التمويل الدولي بأن البيئة الحالية تختلف اختلافاً جوهرياً عن سابقاتها، وهذه ليست صدمة خارجية، بل إجراء سياسي مدروس بأهداف هيكلية. ولكن ما يهم حقاً هنا ليس التحركات السريعة، بل التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي التي ربما حفزتها سياسات الإدارة الأمريكية غير التقليدية.
ومن الجيد أن نتذكر أن الصادرات الصينية إلى اقتصادات «أشباه الموصلات» في الجنوب العالمي تضاعفت منذ الحرب التجارية الأولى التي شنها ترامب نفسه عام 2018. وريثما تهدأ نار الحرب الثانية أكثر، فمن المعقول أن نفترض أن كلاً من الصين وأوروبا قد تسعيان إلى تنويع أسواق صادراتهما بشكل أكبر، والوجهة بالطبع ستكون «الجنوب العالمي».
* كاتب صحفي ومحلل مالي في «رويترز»
0 تعليق