ذكاء اصطناعي.. تمكين بلا تفريط - هرم مصر

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. أحمد البركاني*

في خضم التحولات التكنولوجية المتسارعة، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج عالمي ريادي، في تبني وتطوير تقنيات المستقبل، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. ويأتي هذا التوجه ضمن رؤية طموحة تتجلى في «نحن الإمارات 2031»، حيث يُعد الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في رسم ملامح الاقتصاد المعرفي والمجتمع المتطور.
لقد أحدثت هذه التقنية ثورة في مختلف القطاعات، من تحليل البيانات إلى إنتاج المحتوى، مروراً بالتصميم، والتعليم، والصناعة، فما كان يتطلب أياماً من الجهد اليدوي، أصبح اليوم يُنجز في دقائق معدودة بدقة تفوق في بعض الأحيان العمل البشري التقليدي. باتت هذه الأدوات تتيح للمعلم إعداد تقرير، وللمصمم إنتاج مواد احترافية، وللكاتب جمع وتحليل مصادر معرفية.. وكل ذلك بكفاءة مذهلة وكلفة منخفضة.
لكن هذا التقدم، ورغم ضرورته، يفرض علينا وقفة تأملية، فثمة قلق متزايد من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع قدرات الإنسان الذهنية، ففي المجال التعليمي، يلاحظ بعض المعلمين أن الطلبة ينجزون مشاريعهم، عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، من دون فهم حقيقي لما يكتبون، ما يؤدي إلى ضعف في التفكير التحليلي والتعبير الكتابي. حدثني أحدهم عن طالب أخفق في كتابة فقرة واحدة بالامتحان رغم تفوقه في الأبحاث، قائلاً: «لم يكن ضعيفاً.. فقط اعتاد ألا يفكر».
تشبيه العقل بالعضلة ليس مجازاً إنشائياً، بل حقيقة علمية. التفكير، التخيل، النقد، التقييم، والاستنتاج، هي تمارين عقلية أساسية لا يمكن إغفالها من دون عواقب. وإذا تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة إلى بديل ذهني، فإننا نخسر جوهر ما يجعل الإنسان مبدعاً ومفكراً.
ولا يقتصر الخطر على «هلوسة الذكاء الاصطناعي» — أي تقديمه لمعلومات غير دقيقة — بل يمتد إلى إضعاف الحافز العقلي لدى الفرد، وقد عبّر عن ذلك سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «OpenAI»، بقوله: «الذكاء الاصطناعي هو آخر اختراعات البشر»، مشيراً إلى أن الإنسان قد يتخلى طوعاً عن دوره في التفكير والابتكار، تاركاً المهمة للخوارزميات.
استشعاراً لهذا التحول، بدأت دول ومؤسسات باتخاذ خطوات تنظيمية حكيمة. على سبيل المثال، أقرت جامعة هارفارد سياسة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في الأبحاث دون تصريح، وأطلقت سنغافورة منصات لتدريب الطلبة على التمييز بين المحتوى البشري والآلي، وتوصي «اليونسكو» بإدماج التربية الأخلاقية الرقمية ضمن المناهج التعليمية.
أما في الإمارات، فريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، لا تعني فقط التفوق التكنولوجي، بل تحمل أيضاً مسؤولية بناء نموذج أخلاقي وتربوي متكامل. نحن بحاجة إلى ميثاق وطني للاستخدام المسؤول، يحدد متى وأين وكيف نستخدم هذه الأدوات، وخاصة في قطاعات مثل التعليم، الصحافة، والبحث العلمي. ولتجنب الانزلاق نحو الاعتمادية الذهنية، يمكن تبني ممارسات بسيطة لكنها فعالة، مثل تخصيص وقت يومي للتفكير أو الكتابة من دون أدوات ذكية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في المهام التكميلية فقط، كتجميع البيانات أو التلخيص، لا في صياغة الرأي أو اتخاذ القرار.
ختاماً، الذكاء الاصطناعي قادم بقوة، وهو بلا شك منجز بشري عظيم، لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في تطوره، بل في كيفية تعاملنا معه. فلنحرص أن يكون أداة تمكين لا استبدال، وأن نظل مفكرين لا متلقين، ليظل الإبداع البشري في قلب المعادلة، لا على هامشها.
*مدرب ومحاضر في القيادة والابتكار وريادة الأعمال

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق