في لحظة فارقة من تاريخ موريتانيا الاقتصادي، أعلن وزير الاقتصاد والمالية سيد أحمد ولد أبوه عن نجاح بلاده في جذب مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية خلال عام 2024، مع تعهدات تمويل إضافية بقيمة 2 مليار دولار خلال الفترة 2026-2030، في إطار خطة حكومية طموحة تهدف إلى معالجة التحديات الجغرافية والديموغرافية، وتعزيز البنى التحتية الإنتاجية، وتوسيع النفاذ إلى الخدمات الأساسية.
وخلال مشاركته في اجتماعات صندوق أوبك للتنمية فيينا، قدّم الوزير عرضًا شاملاً للمشاريع التي تعتزم الحكومة تنفيذها، مؤكدًا أن الأولوية المطلقة هي تشييد بنية تحتية متكاملة تخلق النمو وتعزز العدالة في توزيع الخدمات، مع تحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات النوعية عبر إصلاحات هيكلية تشريعية وإدارية.
فجوة خدماتية عميقة.. وخطة لتقليصها
وفي مستهل حديثه الى سكاي نيوز عربية ، وضع وزير الاقتصاد والمالية سيد أحمد ولد أبوه الأساس الفلسفي الذي تستند إليه خطة الحكومة، مشددًا على أن أولوية التنمية في موريتانيا تتمثل في البنية التحتية، كونها القاعدة التي تقوم عليها القدرة على النمو والتوزيع العادل للخدمات. وقال:
"نحن بلد مترامي الأطراف، بمساحة تفوق المليون كيلومتر مربع، وتوزيع سكاني مشتت يشكّل ضغطًا مباشرًا على المالية العامة لتوفير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل."
وهو ما يفسّر، وفق قوله، توجه الحكومة نحو تحديد الأولويات بدقة، والتواصل المكثف مع الشركاء الدوليين لحشد التمويلات اللازمة لسد الفجوات، سواء في البنية التحتية أو في القطاعات الإنتاجية الأساسية مثل الزراعة والصيد والطاقة.
تعهدات تمويل بـ2 مليار دولار... ومحفظة مشاريع واعدة
في هذا السياق، نجحت موريتانيا في الحصول على تعهدات تمويل بقيمة 2 مليار دولار من مجموعة التنسيق المالية العربية، لتمويل محفظة مشاريع تمتد حتى عام 2030، بعد أن تم تقديم عرض إجمالي عنها، على أن يتم عرض تفاصيلها لاحقًا مرفقة بدراسات جدوى وتنفيذ.
ومن أبرز المشاريع المطروحة:
مشاريع البنية التحتية المينائية ميناء المياه العميقة في النهاري: أحد أكثر المشاريع الإستراتيجية المنتظرة لتأمين نفاذ الصادرات وتنشيط التجارة البحرية. تأهيل موانئ جابو وتانيت: لرفع كفاءة البنية المينائية القائمة. منصات تفريغ للمصائد البحرية: منتشرة على الساحل الموريتاني لدعم قطاع الصيد، الذي يشكّل ركيزة من ركائز الاقتصاد المحلي. مشاريع النقل والطرق إنشاء وتوسعة طرق محوريةتربط بين نواكشوط ونواذيبو، وروسو وبوغي. مشاريع تستهدففك العزلة عن مناطق الإنتاج الداخلي وربطها بمراكز الاستهلاك والأسواق الوطنية. موارد المياه والصرف الصحي الاتفاق على تنفيذسدين كبيرين في ولايتي الحوض الغربي والعصابة. الشروع فيدراسات جدوى مشاريع صرف صحي في مناطق سكنية كثيفة، كجزء من تحسين الخدمات البيئية والصحية. قطاع الطاقة ربط شبكات الجهد العاليبين نواكشوط ونواذيبو من جهة، ونواكشوط والزويرات من جهة أخرى، عبر خط يبلغ 450 كم. تهجين المحطات الحرارية في الولايات الداخلية لتعزيز الكفاءة وتقليل الكلفة. توسيع مركز التحكم بالكهرباء، بدعم من صندوق "أوبك فاند"، لمواكبة الطلب المتزايد على الطاقة.الإصلاحات العميقة.. بوابة الثقة الاستثمارية
واعتبر الوزير أن جذور جذب الاستثمار الأجنبي لا تكمُن فقط في المشروع أو الأرقام، بل في تحسين بيئة الاستثمار على المديين المتوسط والطويل. وشدد على أن الحكومة تنفذ إصلاحات حيوية، في مقدمتها:
إصلاح مدونة الصفقات العموميةبما يضمن الشفافية والعدالة. تحسين قوانين الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لتسهيل دخول المستثمرين إلى مشاريع التنمية. إصلاحات في قطاع العدالة والإدارة العموميةلتقوية مؤسسات الدولة، وطمأنة المستثمرين بشأن استقرار ووضوح الإطار القانوني.ويقول الوزير: "حين أتحدث عن تسويق البلد، أعني عرض مكامن الاستقرار السياسي في وسط مضطرب، والحديث عن الإصلاحات الجذرية، وهي التي تُقنع المستثمر الأجنبي وتمنحه الثقة في أن يستثمر بأمان، ويحقق ربحًا مشروعًا."
استثمارات أجنبية متقلبة.. والغاز بوابة الأمل
وفق الأرقام التي استعرضها الوزير، فقد شهدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في موريتانيا تقلبًا في السنوات الأخيرة:
عام 2022: نحو 1.5 مليار دولار عام 2023: تراجعت إلى 0.8 مليار دولار عام 2024: عادت إلى حاجزمليار دولارورغم عدم الاستقرار في حجم التدفقات، يرى الوزير أن المؤشر العام إيجابي، وأن الوتيرة مرشحة للتصاعد بشرط استمرار الإصلاحات وتفعيل الشراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي.
ويقول:"ديناميكية الاقتصاد الوطني مرتبطة بديناميكية القطاع الخاص، وقدرته على إقناع الشركاء، وهذا ما نراهن عليه اليوم."
الغاز.. فجر اقتصادي جديد يلوح في الأفق
وفي منعطف إستراتيجي قد يغيّر شكل الاقتصاد الموريتاني في السنوات القادمة، أكد ولد أبوه أن البلاد دخلت مرحلة الإنتاج الأولي من الغاز الطبيعي، لكنه أشار إلى أن الأثر المالي لهذا المورد الجديد ما زال غير محسوب بدقة، لافتًا إلى أن الحكومة تحتاج إلى نحو ستة أشهر لضبط وتيرة الإنتاج وتحديد المداخيل الفعلية.
وقال الوزير:"لا يمكن اليوم بناء سياسات مالية على تقديرات غير مكتملة، ولكن خلال ستة أشهر ستتضح الأرقام وسنعلن بشكل مفصل حجم الإيرادات الحقيقية."
"بير الله".. كنز الغاز الذي يعد بثورة اقتصادية في موريتانيا
في قلب الجنوب الغربي لموريتانيا، يترقب الاقتصاد الوطني تحولًا جوهريًا تقوده احتياطيات الغاز الضخمة في حقل بير الله، الذي يُصنَّف حاليًا كأحد أكبر الاكتشافات الغازية في إفريقيا. ووفقًا لتصريحات وزير الاقتصاد الموريتاني، فإن احتياطات بير الله المؤكدة تفوق بثلاث مرات احتياطات حقل السلحفاة الكبير، المشروع المشترك بين موريتانيا والسنغال، والذي تديره شركتا "بي بي" و"كوسموس".
ولا تكمن أهمية بير الله فقط في حجمه، بل في إمكاناته المستقبلية؛ إذ يُتوقَّع أن يصبح المصدر الأول لعائدات الغاز في البلاد خلال العقد القادم، ما يضعه في صدارة المشروعات الاستراتيجية للدولة.
لم يخفِ الوزير طموحاته، بل وصف الحقل بأنه "ثورة حقيقية" على المستوى الاقتصادي، مشددًا على أن آثاره لن تقتصر على زيادة الإيرادات فحسب، بل ستطال مجالات حيوية مثل خلق فرص العمل، وتطوير الصناعات الوطنية، وبناء قاعدة إنتاجية مرتبطة بالغاز. بل وذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن المشروع سيمكّن موريتانيا من دخول سوق الغاز العالمي بقوة وثبات.
وفي ظل الاضطرابات التي تعيشها أسواق الطاقة الدولية، يمثل حقل بير الله فرصة نادرة لتثبيت موقع موريتانيا على خارطة الطاقة العالمية، وتحويل ثرواتها الطبيعية إلى رافعة اقتصادية حقيقية تدفع بعجلة التنمية إلى الأمام.
تحولات إستراتيجية.. وتحديات قائمة
ورغم هذا الزخم، فإن الحكومة الموريتانية تدرك أن تحقيق التنمية المستدامة يتطلب أكثر من التمويلات والمشاريع. فالتحديات المتعلقة بالحوكمة، وتوزيع الموارد، وتمكين القطاع الخاص، ما زالت قائمة، وتتطلب معالجة دقيقة.
لكن في المقابل، فإن البيئة الإقليمية والدولية باتت أكثر تقبلًا لفكرة الاستثمار في دول مثل موريتانيا، خاصة في ظل ارتفاع الطلب العالمي على الغاز، وتزايد أهمية موقع البلاد في الربط بين إفريقيا وأوروبا.
موريتانيا تقف على أعتاب تحول اقتصادي
إن قراءة تصريحات الوزير ولد أبوه، والأرقام التي كشف عنها، ترسم ملامح تحول اقتصادي حقيقي في موريتانيا، يرتكز على الاستثمارات الأجنبية، والبنية التحتية الإنتاجية، واستغلال الغاز، وإصلاح البيئة التشريعية.
ومع تعهدات تمويل إضافية تمتد حتى 2030، ودخول الغاز إلى مرحلة الإنتاج، تبدو موريتانيا مؤهلة لمرحلة جديدة من النمو، بشرط الحفاظ على وتيرة الإصلاحات، وتعزيز الثقة بين الدولة والمستثمرين، وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية.
وكما يقول الوزير: "الفرص موجودة، والعالم مستعد للاستثمار، لكن علينا أن نحافظ على جاذبيتنا، وأن نظهر أن موريتانيا الجديدة قادرة على خلق القيمة المشتركة."
0 تعليق