د. محمد الصياد *
بناءً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 26 فبراير/ شباط 2024، سوف تستضيف دولة قطر خلال الفترة من 4 الى 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، «القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية»
(World Summit for Social Development). وكانت القمة الأولى للتنمية الاجتماعية، عُقدت في العاصمة الدانماركية كوبنهاجن، عام 1995، وخرجت حينها بعشر توصيات جاءت في صورة التزامات (Commitments)، أبرزها: القضاء على الفقر، والحد من عدم المساواة، وتعزيز التكامل الاجتماعي. إلى جانب إعلان كوبنهاجن، الذي أكدت فيه وفود 186 دولة مشاركة: تعزيز السلام والأمن الدوليين، وتسريع التنمية في إفريقيا والبلدان الأقل نمواً، وتعبئة الموارد لتحقيق التقدم الاجتماعي، مع التأكيد على الترابط الوثيق بين التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي وحماية البيئة، كعناصر أساسية للتنمية المستدامة.
لقد استغرق الأمر 20 سنة كي تقرر الأسرة الدولية عقد القمة الثانية للتنمية الاجتماعية، بعد أن وجدت، على ما يبدو، أن العالم المهووس بحرق الموارد في سباق فئران النمو (نمط حياة مرهق تقوم عقليته على ملاحقة أي وسيلة لكسب المال بشكل يستنزف الوقت ويعجل بحرق الموارد)، قد ضحى بالتنمية الاجتماعية من أجل النمو والتربح الاقتصادي.
القمة، بما هي منصة للحكومات ولمنظمات المجتمع المدني وقطاعات الأعمال، يُفترض أن تشكل حدثاً استثنائيا في مسار العلاقات الدولية، التي تسجل انعطافات خطيرة نحو العسكرة (بحسب بيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بلغ الإنفاق العالمي على التسلح في 2024,2.46 تريليون دولار، محطماً كل أرقام السنوات السابقة، وسوف يصل إلى 2% من إجمالي الناتج العالمي هذا العام، بعد أن كان 1.59% في 2022)، والحروب العسكرية والتجارية والنقدية.
في هذا العالم الذي يمور بالأحداث الجسام، المتسارعة وتيرتها، وتتسع فيه فجوة عدم المساواة والتفاوت الاجتماعي، والتحولات الديمغرافية والتكنولوجية السريعة، تبدو الالتزامات التي دُبجت في التوصيات العشر، وبيان قمة كوبنهاجن الاجتماعية الأولى، متواضعة وغير مناسبة إطلاقاً لمستوى الأخطار والتحديات، التي تتهدد الجبهات الاجتماعية في كافة مجتمعات العالم، المتقدم والنامي على حد سواء. مع أهمية الاستدراك هاهنا، بأن ما صدر عن القمة الاجتماعية الأولى، كان أقرب إلى التعهدات «Pledges» منه إلى الالتزامات «Commitments».
وهذا يجب أن يتغير في القمة المقبلة، فإذا كان لنا أن نضع معايير لنجاحها، يجب أن تكون مقاربة الالتزامات الممهورة بتصديقات حكومية رسمية، أحد تلك المعايير، فلا يملك المشاركون في القمة رفاهية الوقت لإضاعته في مناقشات لا تنفذ لصلب القضايا الجوهرية الكبرى، التي تطرح نفسها بإلحاح على أعضاء أسرة الأمم المتحدة.
العرب، تحت مظلة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إيسكوا» (إحدى اللجان الإقليمية المتخصصة التابعة للأمم المتحدة)، عقدوا، على مستوى الوزراء المعنيين بالتنمية المستدامة، اجتماعاً في بيروت استمر ثلاثة أيام (14-16 إبريل/ نيسان 2025)، تحت عنوان «المنتدى العربي للتنمية المستدامة»، تحضيراً للمشاركة العربية في مؤتمر الدوحة القادم (القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية).
مداولات المنتدى، الذي عُقد تحت شعار رومانسي (قياساً للمحن الكبرى التي تطبق على العالم العربي) «إعادة الأمل، إعلاء الطموح» (الشعار بحد ذاته يشي بالاستسلام للواقع المرير وبفقدان الأمل)، جاءت للأسف الشديد، رتيبة، مصبوبة في قوالب الخطابات الرسمية «القشيبة»، رغم أن المنتدى، ينهض، كما هو مقرر في تكليفه (Mandate)، آلية إقليمية رئيسية لمتابعة ومراجعة تنفيذ خطة التنمية المستدامة لعام 2030 (Agenda 2030) في المنطقة العربية. وهو معنيٌ (بحسب تكليفه)، بإيصال نتائج المنتدى رسمياً كصوت بلدان المنطقة العربية إلى المنتدى السياسي رفيع المستوى العالمي للتنمية المستدامة (HLPF)، الذي يُعقد سنوياً في نيويورك، بما يشمل ذلك الهدف ال 3 (الصحة الجيدة والرفاه)، والهدف ال 5 (المساواة بين الجنسين)، والهدف ال 8 (العمل اللائق والنمو الاقتصادي) في الأجندة العالمية المعممة.
إنما، عطفاً على سير أشغال المنتدى والعروض والأفكار التي طرحت ونوقشت فيه، لا يبدو أن مخرجاته استجابت، بصورة فعالة وعملية، للحاجات الملحّة لتقديم التزامات جديدة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، خاصة بالتقدم الاجتماعي، الذي تُرك يلهث بلا حيلة لمواكبة هوس النمو الاقتصادي، الذي فُصِل قسراً عن المكونين الآخرين للتنمية المستدامة، وهما حفظ الموارد الطبيعية والبيئة، والتنمية الاجتماعية. فهل سيختلف مصير التزامات القمة الاجتماعية القادمة عن مصير «التزامات» القمة السابقة في كوبنهاجن، وهل ستكون هناك آلية رفيعة المستوى لمتابعة وتنفيذ هذه الالتزامات القابلة أصلاً للتنفيذ؟
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
0 تعليق