منذ الساعات الأولى للهجوم الإسرائيلي الواسع على إيران، والذي تضمّن ضربة مفاجئة أسفرت عن مقتل عدد من القادة العسكريين والعلماء النوويين، سعت الحكومة الإسرائيلية، ومن خلفها الحسابات الداعمة لها، إلى الترويج للرواية القائلة بأنها ضربة قاصمة ستُضعف النظام الإيراني، وتدفع المواطنين إلى الثورة عليه بعد فقدانه السيطرة المدنية.
غير أن هذه السردية سرعان ما ثبت عدم دقتها، وفق محللين، بعدما ردّت إيران بإطلاق صواريخ باليستية طالت عمق تل أبيب، في تأكيد على قدرتها على تجاوز الصدمة الأولى وسدّ الفراغات سريعا، وفق ما قال مقربون منها.
وفي أعقاب التصريحات الرسمية الإسرائيلية التي دعت صراحة الشعب الإيراني إلى التظاهر ضد حكومته، على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اجتاحت منصة إكس موجة من المحتوى الرقمي تدّعي اندلاع "انتفاضة شعبية" و"انهيار داخل إيران"، انطلقت -بحسب الحسابات المروّجة- من طهران وامتدت إلى مناطق أخرى، أبرزها الأحواز.
انتشرت هذه الرواية على نطاق واسع عبر مقاطع فيديو وصور وتغريدات قصيرة، تُظهر مشاهد مزعومة لحرق صور آية الله الخميني والمرشد الإيراني الحالي علي خامنئي، وهروب من سجون طهران، وازدحام على المعابر الحدودية، ورفع أعلام إسرائيل والهتاف لها في أماكن متفرقة، وقد رُوّجت هذه المشاهد تحت عناوين ووسوم متعددة.
تتبعت وكالة "سند" للتحقق الإخباري بشبكة الجزيرة، الادعاءات التي انتشرت بين 14 و17 يونيو/حزيران 2025، بالإضافة إلى تفكيك المحتوى المرئي للحملة وتحليل من يقف خلفها، باستخدام أدوات التحقق البصري، والتحليل الشبكي، ورصد طبيعة الحسابات المؤثرة.
كيف تشكلت مزاعم "الثورة الإيرانية"؟
منذ اللحظات الأولي للهجوم، بدأت موجة رقمية موازية قادتها حسابات إسرائيلية وعالمية على منصة إكس، استخدمت هاشتاجات وكلمات محددة، روجت فيها لرواية أن إيران تشهد انهيارا داخليا، ظهر في هروب من السجون، وتكدس في المعابر الحدودية هربا.
إعلان
واعتمدت الحسابات على مقاطع قديمة، ومقاطع في سياق مختلف، وأخرى مفبركة بالكامل ومولدة بالذكاء الاصطناعي، من أجل ترتيب سردية كاملة، حول انهيار النظام وتفككه تحت وقع الضربات الإسرائيلية.
وبنيت هذه الرواية المضللة حول ثلاث محاور رئيسية:
حدوث انفلات أمني، وانفراط السيطرة المدنية اندلاع ثورة شعبية في طهران والأحواز. الترحيب الشعبي بالتدخل الإسرائيلي لإزالة النظام.ادعاءات مضللة
الحالة الأولى
نشرت الحسابات المذكورة تغريدات زعم فيها أن "الثورة الإيرانية" قد بدأت بالفعل، وأرفقوا فيديو يُظهر شبانًا يحرقون صور الخميني وخامنئي في أحد الشوارع، مع ذكر أن المشهد من طهران وامتد حتى "المنطقة العربية المحتلة من الأحواز".
لكن التحقيق أظهر أن الفيديو قديم، وقد نُشر بتاريخ 19 نوفمبر/تشرين أول 2022 على صفحة أذربيجانية في فيسبوك، ولا يوجد أي علاقة بينه وبين الأحداث الجارية.
وقد لقي هذا الفيديو المضلل رواجا عبر عدد كبير من الحسابات الإسرائيلية.
الحالة الثانية
نشرت حسابات عربية وإسرائيلية مقاطع فيديو لاحتجاجات في منطقة الأحواز، رفضا للحكومة الحالية.
وبالتحقق من الفيديوهات المذكورة، تبيّن أنها لا توثق أي انتفاضة سياسية، بل تعود لاحتجاجات محلية سابقة في مدينة الخفاجية، نظمتها مجموعات من السكان بسبب انقطاع المياه، وهو ما أكدته قناة "أحوازنا الفضائية" التي نشرت الفيديو في وقت سابق.
الحالة الثالثة
ترويج مقاطع فيديو تزعم أن سجناء في طهران تمكنوا من الفرار وسط الانفلات الأمني بعد الهجمات.
غير أن التحقيقات المحلية والصحفية كشفت أن هذه المشاهد لا توثق أي هروب من السجون، بل توثّق خروجا جماعيًا من مركز لمعالجة الإدمان في منطقة جاجرود، وهو منشأة تديرها بلدية طهران.
الحالة الرابعة
في سياق تعزيز السردية حول "انهيار النظام"، روّجت حسابات لمقطع فيديو يُظهر ازدحاما عند أحد المعابر الحدودية، مدعية أن الإيرانيين يفرون من البلاد.
إعلان
وفي وقت لاحق، أصدر مكتب الاتصال بوزارة الداخلية التركية لاحقًا بيانًا رسميا نفى فيه صحة هذه الادعاءات. وأوضح أن:
الفيديو لا يعود لمعبر باز أرغان، بل التقط في معبر كابيكوي (Kapıköy) في ولاية فان شرق تركيا. المشاهد تعود إلى 3 يونيو 2025، أي قبل تصاعد التوتر العسكري بين إيران وإسرائيل.الحالة الخامسة
روجت الحسابات لوجود تأييد شعبي إيراني للتدخل الاسرائيلي، عبر مقاطع فيديو تظهر رفع العلم الإسرائيلي والهتافات لإسرائيل.
وبالتحقق من المقطع الذي يظهر الهتاف دعما لإسرائيل، تبيّن أنه مولد بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، كما لم توثق أي جهة مستقلة أو إعلامية معروفة حدوث مظاهرة مماثلة داخل إيران.
التحليل الشبكي
ومع تصاعد ترويج تلك السردية المزعومة، والانتشار الواسع لها بالتزامن مع تواصل الحديث الإسرائيلي الرسمي عن إضعاف النظام، حاولنا فهم طبيعة التفاعلات المستمرة، وكيف تستمر الشبكات الفاعلة في ترويجها، عبر تحليل شبكي معمق.
أجرينا تحليلًا بصريًا باستخدام أدوات جيفي (Gephi) وخوارزمية ForceAtlas2، لرسم خريطة التفاعل التي نشأت حول الكلمات المفتاحية المرتبطة برواية الانهيار الداخلي في إيران، مثل "الأحواز"، و"الثورة الإيرانية"، و"الهروب من السجن"، وغيرها، وذلك بهدف تحديد أبرز الحسابات التي لعبت أدوارًا مركزية في الانتشار، والكشف عن المجتمعات الرقمية التي شكّلت مراكز الضغط المعلوماتي داخل الشبكة.
تمثل هذه الخريطة البصرية العلاقات الرقمية بين أبرز الحسابات التي نشرت أو أعادت تضخيم سرديات "انهيار إيران" بين 14 و17 يونيو/حزيران 2025، باستخدام كلمات مفتاحية متعددة بثلاث لغات (العربية، الإنجليزية، العبرية).
وقد جُمعت العينة بين 14 و17 يونيو/حزيرن 2025، وضمت كلمات باللغات العربية والإنجليزية والعبرية.
يكشف هذا التحقيق أن الرواية التي انتشرت بكثافة بين 14 و17 يونيو/حزيران 2025، والتي صوّرت إيران وكأنها على أعتاب "ثورة شعبية" وانهيار داخلي، استندت في معظمها إلى محتوى مُضلّل أو خارج سياقه الزمني والجغرافي، وعملت حسابات على تضخيمها عبر حسابات مركزية.
كما أظهر التحليل أن الحسابات التي ضخّمت هذه السردية لم تكن عشوائية، بل ظهرت شبكة رقمية نشطة، ضمت حسابات إسرائيلية وعربية، واتبعت نمطا متكررا في النشر وإعادة التغريد، وسعت إلى تضخيم مشاعر الخوف والانهيار باستخدام مقاطع قصيرة وعناوين مثيرة دون تحقق أو مصدر موثوق.
0 تعليق