إذا ما تأملت في أنواع الشخصيات من حولك فستجد عجبا عجابا من تنوع خلق الله واختلاف النفوس البشرية، ولعلك تهتدي إلى معان غابت عنك من قبل حين تقرأ قوله تعالى ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ (الذاريات: 21).
وجاء في التفسير الميسر لهذه الآية "وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى، وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم، وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه، أغفلتم عنها، فلا تبصرون ذلك فتعتبرون به؟".
ويقصد بذلك عجائب صنع الله في الخلق مادة وبنية ونفسا ومعنى، وقد قال السيوطي في تفسيره لهذه الآية في تفسير الجلالين "وفي أنفسكم آيات أيضا من مبدأ خلقكم إلى منتهاه، وما في تركيب خلقكم من العجائب، أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته؟".
وجاء في تفسير البغوي أن ابن عطاء قال عن ابن عباس شارحا مفسرا المعنى المراد منها "يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع"، وقس عليها مثيلاتها من الآيات التي تدعو إلى التفكر في النفس وخلق الله وإبداعه في تكوينها، وحكمته في اختلافها وتباينها.
ولعلك تدرك الغاية من تكرار الأمر الإلهي بالتفكر في أنفسنا، وما يشمل ذلك من التفكر بها وبخفاياها وأسرارها.
لا بد وأنت تنظر في نفسك وفي من حولك أن تجد إحدى الشخصيات التي توصف بالمضحية، وقد تكونها أنت، فكيف نظر الإسلام إلى التضحية؟ وكيف عرّفها الفلاسفة؟

نظرة الإسلام إلى التضحية وموقفه منها
إذا ما ربطنا بين مفهومي التضحية والإيثار فإن الإسلام قد حض عليهما بوصفهما أساسين متينين لا بد من غرسهما في الفرد المسلم والتركيز عليهما، لأنهما من أهم أركان قيام عماد المجتمع الإسلامي والحفاظ على بنية الدولة الإسلامية.
إعلان
والمجتمع الإسلامي الأول مليء بصور التضحية والإيثار، ليس أولها ما فعله الأنصار مع إخوانهم من المهاجرين من التشاركية والبذل والإكرام باقتسام كل ما يملكون فيما بينهم، فكان ذلك المجتمع القدوة والنموذج الأول الذي ينبغي أن يحتذى في حياة المسلمين جماعات وأفرادا.
على أن مفهوم التضحية لا يفرض على المرء المسلم ما لا يطيقه من أعباء نفسية أو مادية، بل بحسب قدراته وإمكانياته، وهذه الفكرة هي مربط الفرس في تحرير مفهوم التضحية في الإسلام، إذ دارت بشأنها نقاشات كثيرة، وربطها بعض المسلمين بجهاد النفس والتضحية بما يشق على النفس طمعا في الثواب الأعظم.
وتعد التضحية بالنفس والمال في الإسلام من أعظم صور الطاعة والإذعان والتسليم لله تشوقا وتشوفا للشهادة في سبيل الله، وحبا وطاعة ورغبة في الفوز بالجنان ومجاورة الأنبياء والصديقين.
ويشمل مفهوم التضحية الفرد والجماعة، ويختلف بحسب حاجة الموقف وقدرة الأفراد واستيعاب المجتمعات، فقد تكون التضحية بالوقت مثلا، على أن أهميتها التضحية تتباين بحسب الحاجة واختيار الوقت والنوع المناسب، فلا تعتمد على تقدير الفرد وحده حين تهدف إلى خدمة المجتمع بأكمله.
فمن منا لم يسمع بتضحيات الصحابة في الركب الأول حين جاء أحدهم -وهو الغني المقتدر ماليا- بماله كله حين احتاج المسلمون إلى المال، وآخر اشترى للمسلمين بئرا ليرتووا منها حين عز الماء، وآخر جهز جيشا كاملا من ماله حبا وكرامة وتشوفا لما وعدهم الله به في كتابه العزيز كقوله تعالى في سورة (الرعد: 22) ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار﴾.
وقوله تعالى في سورة الحديد ﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور﴾، وغير ذلك كثير من قصص التضحية التي يسطر كل واحد منها حكاية اليقين في قلب المسلم الحق.
ناهيك عما دعا إليه الإسلام من إيثار وسعي في حاجات المسلمين جميعا، وقد يندرج قوله صلى الله عليه وسلم "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" ضمن الإطار نفسه.
فأن تعين أخاك المسلم يعني أن تبذل من نفسك ووقتك وربما من مالك وصحتك، وبين البذل والتضحية شعرة رقيقة، سواء في الفعل والتطبيق، أو في الحديث عن الفعل نفسه وذكره فيما بعد.

مفهوم التضحية لدى الفلاسفة
ذهب الكاتب الأميركي نابليون هيل إلى أن "الإنجاز العظيم وليد تضحية عظيمة، ولا يمكن له أن يكون وليد أنانية قبيحة"، أما الكاتب والروائي الفرنسي بلزاك فيقول "الحب والتضحية والألم من سمات النساء"، ويتفق معه الكاتب عباس محمود العقاد حين يقول "المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية، لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية، كما تموت بعض إناث الحيوان"، فهل ترانا نتفق معه؟
إعلان
يشير مفهوم التضحية فلسفيا إلى الترك والتخلي عن شيء مهم لدى الإنسان من أجل شيء أهم، قد يكون مبدأ أو معتقدا أو إنسانا.
وتعد التضحية فعلا يثبت التزام المرء وإخلاصه بالهدف الذي تخلى عن شيء مهم لأجله، ولا سيما أن فكرة الترك والتخلي تسبب آلاما كثيرة ومتنوعة قد تكون جسدية أو نفسية أو كليهما معا، فالتخلي قد يعني الخسارة وقد يعني الحرمان.
وينظر إلى التضحية غالبا على أنها فعل نبيل شريف لا يقوى عليه أي إنسان، فتغليب شيء على شيء -وكلاهما عظيم لدى النفس- يحتاج إلى قوة نفسية عالية وانضباط ذاتي صارم، ولا يعد الفعل تضحية بدون هذه الصراعات النفسية التي تتراوح شدتها وفقا للشخص وهدفه النبيل الذي يضحي من أجله.
يختلط مفهوم التضحية لدى عموم المفكرين بفكرة التكفير عن الذنوب والتطهير النفسي كما هو الحال لدى البوذيين، ويختلط المفهوم لدى بعض الفلاسفة والمفكرين ذوي الصبغة الإسلامية بمفهوم تربية النفس وتهذيبها وجهادها، انطلاقا من صعوبة التضحيات من جهة وشدة وقعها على النفس البشرية، إذ تقوم في كثير من الأحيان على مخالفة هوى النفس وراحتها وما يسرها.
لكن لدى بعض المفكرين والمعنيين بأنواع الشخصيات وبرمجتها وجهة نظر مختلفة، إذ يذهب بعضهم إلى أن تفاوت الأمر بين الناس أمر طبيعي، فقد تلتقي التضحية بوصفها فكرة مع جهاد النفس أحيانا وقد تفترقان، فما يصعب عليك فعله قد يحلو لغيرك القيام به، وما يشق على نفسك قد يكون له وقع لطيف أو عذب لدى غيرك.
وقد يلتبس معنى التضحية وشكلها بمعان أخرى، كأن تصبح واجبا! نعم، لا تستغرب.
يقول الكاتب عبد الكريم بكار "بشيء من التضحية وشيء من التخلي عن حظوظ النفس يمكن للمرء أن يكون سندا لشخص واحد على الأقل".
وفي الحقيقة، يضحي بعض الناس في سبيل إرضاء الآخرين من أولاد وأهل وأصدقاء بأوقاتهم وصحتهم وأموالهم، لكن هؤلاء الآخرين لا يرون ذلك تضحية بل واجبا أو سلوكا طبيعيا في سياقه.
والأنكى من ذلك أن يروا أنه استحقاق لهم ينالونه، وعيون الشخصية المضحية تنظر ببأس ويأس وتردد في نفسها "لا حمدا ولا شكورا".

ما بين الشهادة والتضحية
اعتدنا عند سماع نشرات الأخبار أن يطرق لفظ "الضحية" و"الضحايا" أسماعنا، ولا سيما عند ذكر الحوادث ومجريات الحروب القائمة التي لا تنتهي.
وتختلف وسائل الإعلام في توصيفاتها، فنسمع أحيانا لفظ "الشهداء" وأحيانا لفظ "القتلى"، كل بحسب توجهاته ومراميه، وما يعنينا هنا هو النظر في لفظ "الضحية"، إذ يعني المجني عليه والبريء الذي يموت ظلما، وما يبذل أو يضحى به في سبيل غاية ما، والجمع "ضحايا".
أما الأُضحية والأُضحِيّة فهي ما يذبح من الأنعام أيام النحر تقربا لله عز وجل وإقامة للسنة، وجمعها "أضاح" و"أضحيات"، ولها بعدان مختلفان، أحدهما سماوي مرتبط بالعبودية لله وحده، والآخر أرضي مجتمعي متعلق بالإحسان إلى الناس.
أما الفرق بين استعمال "القتيل" و"الضحية" في خبر ما فيعكس لنا مدى تعاطف الجهة الإخبارية مع هذا المجني عليه، فالقتيل قد يكون ضحية يستحق التعاطف معه، وقد يكون مجرما نال ما يستحقه، وقد يكون الموقف منه حياديا، أما حين يقال "الضحية" فهذا إعلان واضح وإخبار صريح بالتعاطف معه وعده في صفوف المظلومين.
ولا يخفى على القارئ ما تحمله كلمة "الشهيد" إن استعملت في التعبير عن الضحايا، وما تكسبه للمعنى من جلال وهيبة وتقدير، فالشهادة في سبيل الله مفهوم خاص لدى المسلمين يعني أولئك الذين قتلوا في سبيل الله، وكذلك من قتل في سبيل الوطن أو الواجب، وأصل التسمية أنه يوم القيامة سيكون شاهدا على كل من ظلمه.
وبالنظر إلى لفظ "الأضحية" -وهو من المصطلحات الإسلامية- نجد أنه مصطلح خاص يعني ذبح الأنعام وتوزيع لحومها تقربا إلى الله، وهو بعيد كل البعد عن معنى الضحية التي تقتل أو تذبح ظلما، بل على العكس تماما، إذ اكتسب هذا المصطلح معاني عميقة تدل على البذل المادي في سبيل إرضاء الله وإسعاد الناس والتوسيع عليهم.
تقوم الشهادة في سبيل الله على مفهوم التضحية بالنفس، وهل لدى الإنسان أغلى من روحه ليقدمها في سبيل دينه ومعتقده؟ نعم.. ربما هناك ما هو أغلى، فالتضحية بحد ذاتها مفهوم واسع، وقد يتفاوت الناس في قدرتهم على البذل فيه، فالتضحية بالمال قد تكون أسهل من التضحية بالوقت لدى بعض الناس، وبعضهم يضحون بأنفسهم في سبيل المال، ومثل ذلك التضحية بالأهل والولد والأحباب، وهنا يكمن سر آخر من أسرار اختلاف البشر وتفاوتهم وتباينهم في سلم الأولويات، وإن كانوا ذوي عقيدة واحدة.

ولا بد من التمييز بين الشهادة المقصودة بذاتها التي يبذل المرء فيها نفسه راضيا مطمئنا مؤملا بثواب الشهادة في سبيل الله وخلودا في جنات الفردوس وبين الشهادة التي يحصل عليها المرء قضاء مكتوبا في سجل قدرهن فمن الأحاديث النبوية التي جاءت باتفاق في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال عن رسول الله ﷺ "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله".
إعلان
ومناط التمييز بين حالتي الشهادة هنا هو القرار والعزم والإقدام، وهذا هو أساس التضحية، وبدونه لا تعد الشهادة بذلا وتضحية في سبيل الله، فالمجاهد الذي يدفع بنفسه إلى ميادين القتال وهو يعلم أنه قد يفقد حياته أو قد يتأذى، كان قد وعد نفسه قبل ذلك بما ينتظره في آخرته إيمانا وتصديقا لوعد الله تعالى للمجاهدين الذين يستشهدون في سبيله في سورة آل عمران ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾.
وتختلط الحكايات وتتشابك الخيوط عند اختلاف وجهات النظر تجاه بذل الشاب المجاهد وتضحيته بنفسه في سبيل الله، إذ ينظر آخرون ممن لا ينتمون للعقيدة نفسها ولا يحملون أفكارها -بل يحاربونها بجهل أو بعلم- إلى فعل هؤلاء الشباب على أنه انتحار.
هؤلاء أنفسهم ممن لا يحملون الفكر الإسلامي يرون الأمر إرهابا وانتحارا، ولا يعنيهم ما يعنيه الانتحار للشباب المجاهدين، وكيف يهربون منه فزعا وإيمانا بأنه من الكبائر التي نهي عنها في عقيدتهم ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾.
لا بد لكل منا من وقفة خاصة يقفها مع نفسه ليسألها عن معنى التضحية وتجلياتها في حياته، وهل يقتضي الإخلاص في العمل التضحية بما تتوق إليه النفس؟ وهل نحن من الهلكى أم من المخلصين الذين جاء وصفهم في قول أبي حامد الغزالي "كلكم هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون".
0 تعليق