التفكير الناقد في قاعة العدالة - هرم مصر

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
شاهدت قبل أيام، فيلم «12 Angry Men» الذي أُنتج عام 1957، ويتناول قصة متهم ينتظر من هيئة المحلفين المكوّنة من 12 شخصاً -لكل واحدٍ منهم مهنته وتخصصه المختلف- أن يبتّوا في مصيره، وهم مجتمعون داخل غرفة واحدة وعلى طاولة واحدة. وقد أثار هذا الفيلم دهشة الجمهور والنقّاد الذين ما زالوا حتى اليوم، عند كتابة مقالتي، يتحدثون عنه وكأنه فيلم معجزة لن يتكرر، ولن تُقدِم السينما العالمية على إنتاج مثله!

وفي نظري، لم يحظ الفيلم بهذه الدهشة بسبب الحوار أو السيناريو فقط، بل بسبب «الفكرة» العميقة التي تتجدد للمشاهد مع كل مشاهدة، لتقرأها وتراها بشكل مختلف عنك أولاً، وعن كل من تحدّث عن الفيلم من قبل.

وللأمانة، فهذه ليست فكرة مقالتي، ولن أتحدث عن الإبداع الفني للفيلم، وإنما عن الدرس العميق الذي استوقفني فيه، وهو «قوة التفكير الناقد» وأهمية الإبداع الذهني في مواجهة التحيزات، وقراءة الأفكار المسبقة وتحليلها، حينما وضع المخرج أبطاله في غرفة صغيرة، لكن الفكر فيها كان واسعاً، ممتداً، نابضاً بالحياة، محاصراً بالعاطفة، ومُحرَّراً بالعقل.

تبدأ الحكاية برجل واحد فقط، يقف بعقله ضد تيار من العقول المتطابقة في رؤيتها وحكمها. تفاجأوا برأيه المختلف جداً، وفي هذه اللحظة تحديداً نبتت بذرة التفكير الناقد التي زرعها الفيلم في قلب المشاهد: التشكيك، لا من باب الاعتراض، بل من باب المسؤولية.

وفي الفيلم تجلّى الإبداع في قدرة هذا الرجل على استخدام الأسئلة بدلاً من الإجابات، وعلى زرع الشك المنهجي بطريقة ذكية وهادئة أعاد من خلالها ترتيب الواقع، لا عبر القوة، بل بقوة الحجة والبراهين المتسقة مع الحدث. فالتفكير الناقد ليس فقط طريقاً لتحقيق العدالة، بل هو طريقنا للوصول إلى أهدافنا باستدامة ونجاح، لأنه يساعد الفرد على تحليل المواقف بدقة، وتقييم المعلومات بموضوعية، واتخاذ قرارات مبنية على فهم عميق، لا على انطباعات أو تحيزات كما ظهر في الفيلم. فصاحب التفكير الناقد لا يكتفي بما يُطرح أمامه، ولا يستسلم للفكرة السطحية، بل يبحث عن الأفضل، ويتجاوز صناعة التكرار.

كذلك أرى التفكير الناقد أساساً للابتكار، الذي لا يُولد في بيئة تقبل كل شيء كما هو، بل يُحفّز على طرح الأسئلة، وكسر الأنماط، والبحث عن حلول جديدة وغير تقليدية. فالمبدع الناقد يرى الفرص وسط التحديات، ويحوّل المشكلات إلى بوابات لاكتشاف أفكار غير مسبوقة. كما يمنح التفكير الناقد أدوات لتقييم الخطوات، ومراجعة الخطط، وتحديد مدى قابلية الأهداف للتحقق، والتعامل مع العقبات بمرونة ووعي، مما يُبقي المرء مركزاً على هدفه، دون أن يشتت انتباهه بالمؤثرات أو الإحباطات.

ختاماً.. رأيت في «12 رجلاً غاضباً» أن التفكير الناقد هو البوصلة التي توجهنا نحو رؤية الأشياء على حقيقتها العميقة، هو التميز، وهو الوقود الذي يشعل شرارة الابتكار، وهو الأداة التي ننقح بها أهدافنا لنحققها بذكاء وجودة؛ فالعقل قوة نقدية، والإبداع لا يعني دائماً اختراع شيء جديد، بل يكمن أحياناً في رؤية ما يراه الجميع... بطريقة مختلفة.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق