في حياة الشعوب، لا يُقاس الزمن بعدد السنين، بل بما تصنعه الأرواح النادرة في عمق الواقع، حين تعيد تشكيله برؤية تتجاوز اللحظة، وتغزل من الصمت حركة، ومن العدم حضورًا. وفي الكنيسة، هناك من مرّوا، وهناك من تركوا أثرًا، وهناك من صاروا مسارًا. هكذا كان، ولا يزال، نيافة الأنبا بفنوتيوس، مطران إيبارشية سمالوط.
على مدار تسعة وأربعين عامًا، منذ يوم سيامته في 13 يونيو 1976، لم تكن رحلته مجرد إدارة لشؤون إيبارشية، بل كانت نهجًا فريدًا في الفهم الروحي والتنموي لدور الكنيسة في خدمة الإنسان، عقلًا وروحًا وجسدًا.
منذ لحظة وصوله إلى سمالوط، لم يكن الواقع مشجعًا. الإيبارشية لم تكن موجودة وكانت تفتقر إلى البنية الأساسية، وتعاني من التهميش والخدمات المحدودة، والمجتمع نفسه يحمل من التقاليد والتحديات ما يكفي لتثبيط الطموح. لكن الرجل الذي جاء من عمق الرهبنة، لم يرَ ذلك عائقًا، بل بوابة. فهو لم يأتِ ليدير واقعًا، بل ليصنع واقعًا جديدًا. رؤيته كانت واضحة منذ اللحظة الأولى: بناء الإنسان قبل الحجر، وتأسيس منظومة خدمة لا تعتمد على التبرعات، بل على موارد ذاتية مستدامة، تعيد للكنيسة استقلالها وكرامتها.
خطواته الأولى بدأت ببناء هيكل إداري فعال، ثم تحولت إلى مشروعات حقيقية أحدثت تحولًا في المشهد الاجتماعي والخدمي للإيبارشية. فكانت مستشفى الراعي الصالح بمدينة سمالوط، أول مستشفى خاص في صعيد مصر بمواصفات تضاهي كبرى المؤسسات الطبية، أصبحت منارة للشفاء، ومصدر عمل لمئات الأسر. وتأسست مدارس العهد الجديد، كمشروع تربوي وتعليمي متكامل حافظ على هوية التعليم وأعاد صياغة العلاقة بين المعرفة والقيم، حتى أصبحت اليوم من أفضل المدارس على مستوى الجمهورية.
ثم جاء فندق العائلة المقدسة، مقامًا على سفح جبل دير العذراء بجبل الطير، يحتضنه الجمال الطبيعي ويطل على نهر النيل في مشهد روحي وسياحي نادر، ليصبح نقطة ارتكاز حقيقية لمسار العائلة المقدسة، يربط الجنوب بالشمال، والتاريخ بالحاضر. كما أطلق مشروع "لقمة هنية"، وهو منظومة خدمية متكاملة توفر السلع الغذائية للمواطنين بأسعار مناسبة، وتحقق التكافل دون اتكال. وأطلق نظامًا فريدًا لسيامة الكهنة على مذبح المطرانية ثم توزيعهم وفق احتياجات الخدمة، مع مراعاة التوافق المجتمعي بينهم وبين الشعب، وهو مسار لم تطبقه أي إيبارشية أخرى حسب علمي.
ما يميز الأنبا بفنوتيوس ليس حجم الإنجاز فحسب، بل الطريقة التي أنجز بها. هدوء العارف، وبعد نظر المفكر، وحكمة الراهب. وجهه المضيء، الذي يحمل هدوء شيوخ البراري، هو ذات الوجه الذي يقود بعينين ثابتتين نحو المستقبل، لا يعرف التردد ولا الضوضاء. هو لا يتحدث كثيرًا عن الإنجازات، لأنه يرى أن الفعل وحده هو ما يبقى. ولأنه اختار أن يكون خادمًا لا متصدرًا، ترك للتاريخ أن يشهد، وللناس أن تقول.
في زمن أصبحت فيه المعايير ضبابية، يظل الأنبا بفنوتيوس نموذجًا لرجل الدين المتكامل: قائد بروح الراهب، ومفكر بعين المعلّم، وخادم يضع المحبة فوق كل اعتبار. هو أكثر من مطران، هو حالة نادرة في تاريخ الكنيسة، ورحلة روحية وإنسانية تستحق أن تُدرّس، وأن تُروى، وأن تُحتذى.
وفي كل عام، في يوم سيامته، نُدرك أن بعض الرجال لا يُحتفل بهم في يوم، بل في كل إنجازٍ تركوه، وكل روحٍ لمسوه، وعلى إثر ذلك أقف عاجزا عن اختيار كلمات اكتبها أو حروف أسطرها لأن الأنبا بفنوتيوس ليس شخص بل فكره أيدتها الروح القدس فسار صوره حيه لحكمة سيده، كل عام ونيافتك تنجز إنجازات جديدا.
اقرأ أيضاً
عيد سيامة الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوطالأنبا بفنوتيوس: الكنيسة لا تُدار من القبر
البابا تواضروس الثاني إلى الفاتيكان.. تفاصيل اللقاء وبرنامج الزيارة«صور»
0 تعليق