حين ينظر مجتمع إلى ذاته بعيون الغرب، ناقدا عاداته ومراجعا تراثه، تولد ظاهرة فريدة يسميها الباحث الأذربيجاني الدكتور رشاد حسنوف "الاستشراق الذاتي". هذا المفهوم المثير للجدل، الذي لا يحمل بالضرورة دلالة سلبية في أذربيجان كما هو شائع في العالم العربي بعد إدوارد سعيد، كان محور حوارنا مع الدكتور حسنوف على هامش مؤتمر الاستشراق الدولي الذي عقد في الدوحة يومي 26 و27 أبريل/نيسان 2025، الذي جمع نخبة من المفكرين والباحثين والمستشرقين والمستعربين الذين جاؤوا من أقطار العالم المختلفة، للنقاش الموضوعي حول واقع الدراسات الاستشراقية، وتحولاتها التاريخية والمعاصرة.
فالدكتور حسنوف، الباحث المتخصص في الأدب العربي والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة السلطان قابوس، يمثل جسرا ثقافيا بامتياز؛ إذ يتحدث 6 لغات بطلاقة، من بينها العربية والفارسية والتركية، مما يمنحه رؤية بانورامية للتداخل الحضاري العميق في منطقة القوقاز.
وفي حواره مع "الجزيرة نت"، يغوص الدكتور حسنوف في تاريخ بلاده الثقافي، كاشفا كيف أن دعوات التنوير التي انطلقت في أواخر القرن الـ19، مثل دعوة المفكر "ميرزا فتح علي آخوند زاده" لتغيير الأبجدية العربية، أدت إلى "انقطاع الأجيال الجديدة عن تاريخها الثقافي الممتد لأكثر من ألف عام"، وهو التراث المحفوظ اليوم في آلاف المخطوطات النادرة التي لا يقرؤها سوى قلة من المختصين.
إعلان
من "الاستشراق الذاتي" الذي أسقط "الرؤية الغربية على ذواتنا"، إلى تأثير المدرسة الاستشراقية الروسية التي كانت مقيدة "بإطار أيديولوجي سوفياتي"، يأخذنا الدكتور رشاد حسنوف في جولة فكرية لفهم كيف يمكن لثقافة أن تراجع نفسها دون أن تفقد هويتها الأصيلة. فإلى الحوار:
كيف غيّر "مؤتمر الاستشراق الدولي – الدوحة" نظرتكم إلى مفهوم الاستشراق؟ وما الذي أضافه إلى معارفكم السابقة؟
بصراحة، منحني هذا المؤتمر أفكارا جديدة وانطباعات مغايرة عما كنت أتصوره. فنحن غالبا ما نتعلم عن الاستشراق من خلال أعمال إدوارد سعيد، الذي ركز بشكل رئيس على المصادر الإنجليزية. ولكن من خلال هذا المؤتمر، اتضح لي أن هناك مدارس استشراقية أخرى مهمة، كالإسبانية والإيطالية، وأيضا تلك التي نشأت في دول الاتحاد السوفياتي السابق، فمثلا، هناك المدرسة الاستشراقية الروسية.
ولكل من هذه المدارس خصائصها وميزاتها، وقد أتاح لي المؤتمر فرصة ثمينة للتعرف على تنوع هذه الاتجاهات في دراسة الاستشراق على مستوى العالم. ولقد قدمت ورقة بحثية خلال المؤتمر بعنوان "الدراسات العربية في الاستشراق الأذربيجاني الجديد"، حاولت فيها تسليط الضوء على تطور هذا الحقل في أذربيجان، وخاصة في العقدين الأخيرين.
برأيكم.. كيف نشأت ملامح الاستشراق في أذربيجان؟ وما الفرق بينه وبين ما تصفونه بـ"الاستشراق الذاتي"؟
علينا أن نعود إلى التاريخ البعيد بعض الشيء، لأننا تعرفنا على اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية قبل أكثر من ألف عام، مع دخول الإسلام إلى مملكة الفرس ومنطقة القوقاز. فقد كنا جزءا من الثقافة العربية والإسلامية.
وكما ذكرت قبلا، فإن "الثقافة العربية" لا تعني بالضرورة ثقافة العرب وحدهم، بل يقصد بها الثقافة التي استخدمت اللغة العربية في نصوصها الأدبية والدينية. وقد ساهم في هذه الثقافة أقوام شتى مثل الأتراك والفرس والأكراد وغيرهم من المسلمين، ولكن اللغة المشتركة التي جمعت هذه النصوص كانت العربية، ولذلك يطلق عليها "الثقافة العربية"، ونحن جزء أصيل من هذه الثقافة العربية الإسلامية، ولدينا تاريخ طويل وعريق فيها.
إعلان
أما بالنسبة للاستشراق، فيمكن القول إن ملامحه بدأت تظهر في أواخر القرن الـ19، بعد انتقال أذربيجان من الحكم القاجاري إلى الإمبراطورية الروسية. في تلك المرحلة، بدأ المفكرون والمثقفون الأذربيجانيون يتلقون تعليمهم في المدارس الروسية، وأحيانا في الجامعات الأوروبية، فعلى سبيل المثال، لدينا مفكر أذربيجاني بارز هو "أحمد آغا أوغلو" الذي درس في جامعة السوربون في فرنسا.
وعندما عاد هؤلاء المفكرون إلى مجتمعهم، بدؤوا ينظرون إليه من زاوية غربية، وشرعوا في نقد بعض العادات والتقاليد. ولقد كانت هناك ملاحظات نقدية بناءة، وأحيانا أخرى سلبية، ولذلك أطلقت على هذا الاتجاه مصطلح "الاستشراق الذاتي" (Self-Orientalism)، أي أننا بدأنا ننظر إلى أنفسنا بعيون الغرب، ولم نكن نمارس الاستشراق على شعوب أخرى شرقية، بل أسقطنا الرؤية الغربية على ذواتنا.
لكن تجدر الإشارة إلى أن لهذه النظرة الغربية بعض الإيجابيات أيضا، فأنا أتحدث هنا عن مرحلة ما قبل الاتحاد السوفياتي، حيث شهدنا خلالها انفتاحا في مجالات متعددة، مثل إنشاء المسارح، والمدارس الحديثة. بل إن أول مدرسة للبنات المسلمات -وأعتقد أنها الأولى في العالم الإسلامي بأسره- تأسست في باكو عام 1901، وكان ذلك في عهد الإمبراطورية القيصرية، وليس في عهد الاتحاد السوفياتي. في تلك الفترة، لم يكن لدينا استشراق بالمعنى التقليدي، ولذلك وصفت هذه الظاهرة بـ "الاستشراق الذاتي".
ما مظاهر الاستشراق الذاتي في التجربة الأذربيجانية؟ وكيف تأثرت هذه التجربة بالنقد الذاتي العربي وبالتحولات الثقافية مطلع العصر الحديث؟
الاستشراق الذاتي عند العرب يمكن القول إنه بدأ في مصر وسوريا، فالغالبية ممن انخرطوا في هذا الاتجاه -سواء في العالم العربي أو حتى في أذربيجان– كانوا في الأصل من الدارسين للعلوم الإسلامية، بل إن كثيرا منهم كانوا رجال دين. ولا أستطيع أن أطلق على هذا التوجه مصطلح "الاستشراق" بالمعنى التقليدي، بل هو نقد ذاتي هدفه التطوير العلمي والثقافي، إلا أن هذا النقد لم يخل أحيانا من تجاوزات وسلبيات، إذ تجاوز الحد في بعض المواضع.
إعلان
ومن الأمثلة المهمة على هذا النوع من النقد الذاتي، كتاب "تحرير المرأة" للمفكر المصري قاسم أمين، الذي صدر في أواخر القرن الـ19. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية، ومنها ترجم لاحقا إلى اللغة الأذربيجانية. وهذا يدل على أن أفكار النقد الذاتي أو ما نسميه بالاستشراق الذاتي، انتقلت من العالم العربي إلى أذربيجان.
وإذا تحدثنا عن أبرز أفكار المستشرقين أو أصحاب النزعة الاستشراقية الذاتية في أذربيجان، وخاصة المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية في العصر الحديث، فهؤلاء لم يكونوا يعرفون بأنهم مستشرقون في الفترة التي سبقت الحكم السوفياتي، بل كنا نطلق عليهم مثقفين أو تنويريين، فقد كانت هناك حركة فكرية تهدف إلى الإصلاح والتنوير.
ومن أبرز رموز هذه الحركة "ميرزا فتح علي آخوند زاده"، الذي دعا إلى تغيير الأبجدية من العربية إلى اللاتينية، معتقدا أن الأبجدية العربية تعيق التطور الثقافي وتمثل حالة من التخلف، لكنني شخصيا لا أتفق مع هذا الرأي. لأننا عندما غيرنا الأبجدية، انقطعنا عن تاريخنا الثقافي الممتد لأكثر من ألف عام. فهناك العديد من الكتب والمؤلفات المكتوبة باللغة الأذربيجانية ولكن باستخدام الأبجدية العربية، وأصبحت الأجيال الجديدة غير قادرة على قراءتها أو دراستها.
ولا تزال هناك مخطوطات كثيرة محفوظة في معهد المخطوطات في أذربيجان، ولكن لا يستطيع قراءتها اليوم سوى عدد قليل جدا من المختصين، وهذا يعني أن جزءا عظيما من تراثنا بات معزولا عن واقعنا المعاصر. وكنت قد تحدثت بمشاركتي بالمؤتمر قليلا عن المخطوطات العربية في باكو، التي لم تقتصر على المخطوطات المكتوبة باللغة العربية فحسب، بل هناك أيضا مخطوطات مكتوبة بالأبجدية العربية ولكن بلغات متعددة، منها العربية والفارسية والتركية.
ويمكننا أن نجد في هذه المخطوطات كتبا دينية وأدبية وأعمالا لغوية وعلمية. ومن بين الكنوز المهمة التي تحتفظ بها هذه المجموعات قاموس لغوي نادر يعود تاريخه إلى نحو 500 عام، وهو قاموس "فارسي-تركي". وقد أعد هذا القاموس خصيصا لمساعدة القراء على فهم أعمال كبار الشعراء الفرس مثل "أبو القاسم الفردوسي" و"نظامي الكنجوي"، اللذين كتبا أعمالهما باللغة الفارسية. ولذلك، فإن هذا القاموس يعد أداة لغوية وثقافية مهمة لفهم التراث الأدبي في المنطقة، ويعكس التداخل العميق بين اللغات والثقافات الإسلامية في أذربيجان والمنطقة عموما.
إعلان
كيف تنظرون إلى تأثير الاستشراق الروسي على التجربة الأذربيجانية؟ وما الذي يميزه مقارنة بالاستشراق الغربي، وكيف ينظر الأذربيجانيون إليه؟
يمكننا القول إن الاستشراق الروسي دخل أذربيجان بعد انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي، فقد أصبحت أذربيجان جزءا من الاتحاد في عام 1920، وفي عام 1922 تأسس قسم الاستشراق في جامعة باكو الحكومية، وكان مؤسسو هذا القسم من الروس أنفسهم. وقد شارك عدد من المستشرقين الروس المعروفين في إنشاء هذا القسم، لكن مع مرور الوقت، برز مستشرقون أذربيجانيون تخرجوا في هذه الكلية وأسهموا في تطوير هذا المجال.
ويمتاز الاستشراق الروسي مقارنة بالاستشراق الغربي أو الأوروبي بأنه يركز على الدراسات العلمية والثقافية بدرجة كبرى، ولكنه كان مقيدا بإطار أيديولوجي سوفياتي ماركسي، مما أثر على طبيعة الأبحاث وأهدافها.
وقد ظهر عدد من المستشرقين الأذربيجانيين البارزين الذين تتلمذوا في هذا الاتجاه، منهم: "عيدة إيمان غولييفا"، و"محمد علييف"، و"مالك محمودوف"، و"زاكر محمدوف". هؤلاء الباحثون لم يكتفوا بدراسة الثقافة العربية فحسب، بل درسوا أيضا الثقافة الأذربيجانية المكتوبة باللغة العربية، أي التراث العربي الذي أنتجه الكتاب والعلماء الأذربيجانيون في العصور الإسلامية.
ولهذا السبب، فإن كلمة "الاستشراق" لا تحمل دلالة سلبية في أذربيجان كما هو الحال في العالم العربي بعد كتاب إدوارد سعيد. فكثير من الناس الذين لم يطلعوا على أفكار إدوارد سعيد ولا يعرفون نقده للاستشراق، ينظرون إلى الاستشراق بإيجابية، بل ويفتخرون بلقب "مستشرق"، لأنهم يعتبرون أنفسهم باحثين في تاريخهم وثقافتهم، من خلال نظرتهم الذاتية، لا من خلال عدسة الغرب.
0 تعليق