بيروت تحت النار.. رسائل إسرائيلية في ليل العيد - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ليلة عيد الأضحى، عادت بيروت لتكون هدفًا مباشرًا للضربات الإسرائيلية، في تطوّر نوعي له دلالات تتجاوز الجغرافيا اللبنانية.

فالضربة لا يمكن قراءتها كحدث معزول أو كرسالة تكتيكية فقط، بل تأتي ضمن مشهد إقليمي مضطرب يتقاطع فيه ما هو محلي مع الإقليمي والدولي، وتُستخدم فيه الجغرافيا اللبنانية كساحة لتوجيه رسائل متعدّدة في توقيت شديد الحساسية.

ومنذ وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المنصرم، ورغم توتر جبهة الجنوب إلى هذه اللحظة، وتعدد جولات التصعيد، حافظت إسرائيل على "تحفّظ" ما تجاه استهداف العاصمة اللبنانية، وذلك نتيجة الإصرار الأميركي على إعطاء فرصة للإدارة اللبنانية التي أنتجت عقب الحرب، لكن الضربة الأخيرة التي استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت، شكّلت خرقًا لهذا التفاهم غير المكتوب، ما يشير إلى تصعيد إستراتيجي لا يرتبط فقط برد فعل أو عمل ميداني موضعي، بل بقرار سياسي ذي أبعاد إقليمية.

الرسالة الأولى موجّهة إلى الداخل اللبناني، وتحديدًا إلى البيئة السياسية والدبلوماسية التي تتحرّك بنشاط في الأسابيع الأخيرة لإنتاج تسوية داخلية حول سلاح حزب الله، وسلاح المخيمات الفلسطينية، وسط ضغوط دولية متصاعدة لوضع هذا الملف على الطاولة.

إعلان

فالحزب، وللمرة الأولى منذ سنوات، لا يمانع البحث في "صيغة معالجة" لسلاحه، لكن وفق شروط محددة ترتبط بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، وتقديم ضمانات واضحة دوليًا لإعادة الإعمار.

وهذه المواقف فتحت النقاش داخليًا حول إمكانية إدخال الحزب في تسوية أوسع ترتّب وضعه العسكري مقابل انخراطه الكامل في الدولة. بيدَ أن الضربة الإسرائيلية، التي استهدفت بيروت عشية العيد، تهدف إلى نسف هذا المناخ، وإعادة إنتاج بيئة "حافة الهاوية"؛ لتقويض أي تفاهم لبناني- لبناني أو لبناني- دولي حول معالجة ملف السلاح ضمن منطق سياسي تفاوضي.

في هذا الإطار، لا يمكن فصل الاستهداف الإسرائيلي الأخير عن الجهود الدبلوماسية التي يقودها رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، والتي تهدف إلى تشكيل لوبي دولي ضاغط يدفع باتجاه انسحاب إسرائيل الكامل من جنوب لبنان، وفتح الباب أمام عملية إعادة إعمار شاملة. عون، الذي كثّف لقاءاته مع أطراف أوروبية وعربية خلال الأسابيع الماضية، يسعى إلى استثمار مؤتمر باريس المرتقب الشهر المقبل كمنصة رسمية لإطلاق مبادرة متكاملة تربط بين الانسحاب الإسرائيلي، وتثبيت الاستقرار في الجنوب، عبر التزام دولي سياسي ومالي بإعادة الإعمار.

بيدَ أن الضربة على بيروت جاءت بمثابة صفعة استباقية لهذه الجهود، إذ تسعى إسرائيل من خلالها إلى إجهاض أي مناخ دولي أو تفاهم لبناني- غربي يُعيد وضع الانسحاب من الجنوب على جدول الأعمال الدولي.

بالنسبة لتل أبيب، فإن السماح بتحرك لبناني منسق برعاية فرنسية وأوروبية من شأنه أن يُعيد فتح ملف الحدود والنقاط المتنازع عليها وحقوق لبنان السيادية، وهي مسائل تحاول إسرائيل إخراجها نهائيًا من التداول. وبالتالي، فإن التصعيد الأخير لا يُقرأ فقط كسلوك عسكري، بل كموقف سياسي هدفه تعطيل الدينامية الدبلوماسية اللبنانية قبل أن تكتسب زخمًا في المحافل الدولية.

إعلان

ومنذ اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعتبر إسرائيل نفسها في "بيئة إستراتيجية ذهبية". فالحرب وفّرت لها غطاءً دوليًا غير معلن للقيام بما لم تكن تستطيع فعله سابقًا: توسيع نطاق العمليات العسكرية خارج الأراضي المحتلة، وضرب المحيط الجغرافي لحركة حماس، وحلفاء إيران من دون الحاجة لتقديم مبررات قانونية أو دبلوماسية.

في هذا الإطار، تتحرك إسرائيل نحو ما يمكن تسميته بإعادة تشكيل النظام الأمني الإقليمي، ضمن صيغة ردع استباقي يمنحها حرية التدخل في دول الجوار: من غزة إلى بيروت، مرورًا بسوريا. في هذه المعادلة، لم تعد إسرائيل مهتمة بتفاهمات مؤقتة أو تهدئات موضعية، بل تسعى لفرض قواعد اشتباك جديدة تقوم على الردع المسبق و"القصاص الجغرافي".

وبالنسبة لنتنياهو، فإن الحرب المفتوحة (أو شبه المفتوحة) هي السبيل الوحيد لإبقاء قبضته على السلطة، والهروب من الملاحقات القضائية والأزمات الداخلية. فكلما طال أمد الحرب، زادت قدرته على تصدير الأزمة الداخلية إلى الخارج، واستثمارها لترتيب النظام الإقليمي بما يخدم رؤيته الأمنية والعقائدية.

في الموازاة، لا تنفصل الضربة على بيروت عن المناخ السياسي الإقليمي الأوسع، لا سيما الحديث المتزايد عن تفاهم أميركي- إيراني محتمل، تدفع نحوه عواصم عربية وإقليمية. فالمفاوضات الجارية منذ أشهر في الدوحة ومسقط بين طهران وواشنطن – بمشاركة غير مباشرة من حزب الله – باتت تشكّل مصدر قلق إستراتيجي لتل أبيب.

إسرائيل تخشى أن يؤدي أي تفاهم أميركي- إيراني إلى تخفيف الضغوط على أذرع طهران في المنطقة، وخصوصًا حزب الله، الذي قد يحصل مقابل ذلك على شرعية سياسية داخلية وإقليمية مشروطة. من هنا، يُقرأ الاستهداف الإسرائيلي لبيروت كرسالة واضحة لواشنطن: أي تفاهم مع طهران يجب أن يراعي أولًا حسابات الأمن الإسرائيلي، وإلا فإن إسرائيل ستواصل اللعب بالنار لتعطيل أي مسار تفاوضي.

إعلان

لكن في الجهة المقابلة، لا تبدو الصورة أكثر وضوحًا في واشنطن. فالرئيس دونالد ترامب، الذي يخوض مواجهة سياسية محتدمة مع نتنياهو بشأن غزة والملف الإيراني، أطلق قبل أسبوعين حملة "تطهير" داخل مجلس الأمن القومي الأميركي، الذي يُعدّ الجهة الأرفع المسؤولة عن رسم سياسات البيت الأبيض الخارجية.

فقد أقال ترامب رئيس المجلس الأمني بسبب تواصله مع نتنياهو دون علمه، كما أعاد هيكلة عشرات المواقع الحساسة داخله، عبْر وزير الخارجية الجديد ماركو روبيو. هذه التغييرات طالت شخصيات بارزة مثل ميراف سيرين، مديرة قسم إيران وإسرائيل، وإريك ترايغر، المسؤول عن شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهما من أشد المؤيدين لإسرائيل، وكانا قد استُقدما سابقًا من قبل مستشار الأمن القومي المقال مايك ولتز.

هذه الإجراءات التي وصفها بعض المراقبين بـ"الانقلاب الناعم"، تهدف إلى تقليص النفوذ الإسرائيلي داخل مؤسسات القرار الأميركي، من دون المساس بالتحالف التاريخي. لكنها تعبّر بوضوح عن وجود توجه داخل إدارة ترامب لاستعادة السيطرة على القرار الإستراتيجي بعيدًا عن الإملاءات الإسرائيلية، خاصة في ظل تباعد الرؤى حول الملف الإيراني والحرب على غزة.

وماركو روبيو، رغم تأييده التقليدي لإسرائيل، لا يتبنى بالكامل أجندتها الإقليمية. ويبدو أنه يسعى إلى تقديم رؤية أكثر "أميركية الهوى"، تستند إلى المصلحة القومية المباشرة، لا إلى صدى اللوبي الإسرائيلي في واشنطن.

ووفق المطلعين في واشنطن، فإن ترامب بات مقتنعًا بضرورة تحقيق إنجاز خارجي كبير قبيل الانتخابات النصفية، خصوصًا بعد خيبة أمله من مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ملف أوكرانيا، وتصاعد خلافه مع نتنياهو حول إستراتيجية غزة.

في هذا السياق، يبدو أن الرئيس الأميركي لا يريد التورط في حرب مفتوحة مع إيران، بل يفضل إنجاز تفاهم "مرن" معها، قد يساهم في تهدئة الجبهات ويُظهره بمظهر الرئيس القادر على تحقيق الاستقرار. من هنا، فإن الضربة الإسرائيلية لبيروت قد تكون في أحد وجوهها محاولة إسرائيلية لجرّ واشنطن إلى حافة التصعيد، أو على الأقل تعطيل المفاوضات الإيرانية- الأميركية.

إعلان

في نهاية المطاف، ما جرى ليلة عيد الأضحى في بيروت ليس مجرد حادث أمني عابر، بل يمثل محطة جديدة في معركة السيطرة على القرار الإقليمي، وإسرائيل تصعّد لتفرض معادلة ردع شاملة تمنع أي تسوية سياسية، في حين تحاول واشنطن إعادة ضبط أولوياتها في المنطقة عبر بوابة المفاوضات مع طهران.

أما لبنان، فيجد نفسه – كالعادة – في قلب العاصفة: دولة بلا مناعة، وملف محوري في لعبة أمم كبرى، وبيئة تتنازعها الضغوط الدولية وشروط الداخل، فيما شعبه يحتفل بالعيد تحت أزيز الطائرات، ووسط قلق من أن تكون الضربة الأخيرة مجرد فاتحة لجولة أكثر عنفًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق