في لحظة فارقة من عمر الأسواق العالمية، تلمع الفضة من جديد كلاعب استثماري قد يُغير قواعد اللعبة. فالمعدن الأبيض، الذي ظل لسنوات في ظل الذهب، يسجّل صعودًا غير مسبوق وسط تقلبات الاقتصاد العالمي، واضطرابات الجغرافيا السياسية، وازدهار قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة.
هذه القفزة لفتت أنظار المستثمرين وصنّاع القرار، وأثارت تساؤلات مشروعة: هل نشهد عودة الفضة كأصل استراتيجي؟ وما الذي يجعلها اليوم أكثر جاذبية من الذهب؟
قفزة سعرية لافتة... ومؤشرات تاريخية
خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، ارتفعت أسعار الفضة بنسبة تجاوزت 19%، لتبلغ أكثر من 34.5 دولارًا للأونصة. هذه المستويات لم تُسجّل منذ ما يزيد على سبعة أشهر، وهي تحركات تعيد إلى الأذهان محطات تاريخية شهدت تغيرات جوهرية في سوق المعادن الثمينة.
اللافت أن الفجوة بين سعر أونصة الذهب وأونصة الفضة وصلت إلى 100 ضعف — وهي نسبة لم تُسجّل سوى أربع مرات في التاريخ الحديث، في لحظات تخللتها حروب وأزمات مالية وجيوسياسية كبرى. وبحسب خبراء، كل مرة بلغ فيها هذا الفارق أقصاه، تبعته موجة صعود حادة في سعر الفضة، وهو ما يعزز التوقعات بمزيد من المكاسب خلال الفترة المقبلة.
الرهان الكبير: بنوك كبرى ترى الفضة فوق 38 دولارًا
أشارت مؤسسات مالية كبرى مثل "جي بي مورغان" و"ساكسو بنك" و"بي إس " إلى أن سعر الفضة مرشح للارتفاع إلى مستويات تتجاوز 38 دولارًا للأونصة خلال عام 2025، في ظل استمرار العوامل الداعمة للطلب وانخفاض المعروض. ويذهب بعض الخبراء إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن حاجز 40 دولارًا قد لا يكون بعيد المنال إذا استمرت الديناميكيات الحالية.
و قال طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، في مقابلة مع برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية إن الفضة "تستفيد من عاملين متوازيين: طلب صناعي مرتفع، واهتمام استثماري متزايد"، مشيرًا إلى أن "الفارق الكبير بين العرض والطلب يشكّل محركًا أساسيًا للأسعار خلال العامين المقبلين".
ما الذي يدفع الفضة إلى هذا المسار الصاعد؟
التحليل الفني والأساسي لتطورات سوق الفضة يكشف عن مجموعة عوامل مترابطة تفسّر هذا الزخم، أبرزها:
طلب صناعي متزايدحوالي 60% من الطلب العالمي على الفضة يأتي من قطاعات استراتيجية تشمل الذكاء الاصطناعي، إنتاج الألواح الشمسية، المركبات الكهربائية، التقنيات الفضائية، وأشباه الموصلات. هذه الاستخدامات تمنح الفضة دورًا متميزًا لا يملكه الذهب، الذي يظل محصورًا إلى حد كبير في مجالات الاستثمار والمجوهرات.
معروض محدود وتكلفة إنتاج مرتفعةوفقًا للرفاعي، فإن تكلفة بناء مصانع جديدة لتعدين الفضة باتت "مرتفعة للغاية، بينما ظلت الاستثمارات في هذا القطاع محدودة خلال السنوات الماضية"، ما خلق اختلالًا واضحًا بين العرض والطلب.
توجه استثماري شعبي واسعالبيانات تشير إلى أن الاستثمار الفردي في الفضة بلغ نحو 191 مليون أونصة خلال 2024، ما يعكس اهتمامًا متزايدًا من شريحة واسعة من المستثمرين الأفراد، خصوصًا أولئك الذين لا يستطيعون تحمّل كلفة الذهب. في هذا السياق، يصف الرفاعي الفضة بأنها "ذهب الفقراء"، لكنها في الوقت نفسه "رهان واعد للأثرياء الباحثين عن مكاسب سريعة".
مخاطر محتملة: هل تصمد الفضة أمام تقلبات السوق؟
رغم الصورة المتفائلة، إلا أن الفضة لا تخلو من مخاطر. على خلاف الذهب، الذي يحظى بدعم مستقر من البنوك المركزية، فإن الفضة تعتمد بدرجة كبيرة على الاستثمارات الفردية، ما يجعلها عرضة لتقلبات سريعة في الأسعار.
يؤكد الرفاعي أن "الطلب الاستثماري هو المحرك الرئيسي الحالي لأسعار الفضة، لكنه متقلب بطبيعته، لأن المستثمر الفردي سريع التأثر باتجاهات السوق، ما قد يؤدي إلى موجات بيع مفاجئة في حال تغيرت المعطيات."
مستقبل الفضة: إلى أين تتجه الأسعار؟
السيناريو المتوقع، بحسب العديد من الخبراء، يشير إلى احتمال استمرار صعود الفضة حتى نهاية عام 2025، مع توقعات بأن تتجاوز 40 دولارًا للأونصة في حال حافظت المعطيات الحالية على زخمها.
لكن طارق الرفاعي يحذر من أن "عام 2026 قد يشهد تصحيحًا في الأسعار، وهو أمر طبيعي في ظل دورة الصعود القوي"، معتبرًا أن هذه التقلبات لا تقلل من جاذبية الفضة كأصل استراتيجي، بل تعزز من مكانتها كفرصة استثمارية لمن يجيد قراءة توقيت الدخول والخروج.
بريق متجدد... ولكن بحذر
تعيد الفضة اليوم صياغة موقعها في المشهد المالي العالمي، بين طلب صناعي غير مسبوق، واهتمام استثماري واسع النطاق. وإذا كانت تُعرف تقليديًا بأنها "ذهب الفقراء"، فإن أرقام السوق وتوصيات البنوك تشير إلى أنها مرشحة لأن تصبح "رهان الأثرياء" المقبل.
لكن الطريق إلى القمة ليس بلا تحديات. ومن يراهن على الفضة، عليه أن يضع في حسبانه تقلبات الأسواق، وتغير الاتجاهات، وأهمية التحليل العميق في كل قرار استثماري.
الفضة تلمع من جديد، والسؤال المفتوح يبقى: إلى متى سيستمر هذا البريق... وهل سيحجب ضوء الذهب؟
0 تعليق