بلا شك أعاد الهجوم الذي نفذته أوكرانيا، في 1 يونيو 2025 في عمق روسيا كتابة قواعد الحرب، كونه يعد من أثقل الضربات التي تلقتها روسيا منذ بداية الحرب، لا سيما وأنه استهدف قواعد عسكرية روسية وقاذفات استراتيجية حيث دمرت 41 طائرة بما في ذلك قاذفات من طراز "تو 95 و"تو 22-" في قاعدة "بيلايا" الجوية بسيبيريا، وطائرات رادار من طراز 50-A, وهي أدوات أساسية لعمليات صواريخ كروز الروسية وتنسيق الدفاع الجوي، وقد ساهم ذلك في اندلاع حرائق واسعة في هجوم وصف بأنه الأول من نوعه على بعد أكثر من 4300 كيلومتر من الجبهة، وبالتالي تقدر حجم الخساائر نحو 7 مليار دولار بداخل القوات الروسية نحو 34 % من القاذفات الروسية النادرة التي يصعب تعويضها، حيث يعود تصنيع أغلبها إلى ما يزيد على ثلاثة عقود، كما وجهت هذه الهجمات ضربة قوية لقدرات روسيا على الضربات بعيدة المدى، وكشفت عن نقاط ضعف عميقة في بنيتها التحتية الأمنية، ،
فقد تميزت هذه العملية تحديدا بتكتيكات مغايرة وجديدة، ومن داخل العمق الروسي، وبطائرات صغيرة لا تلتفت إليها الدفاعات الجوية عادة، كما شملت العملية، التي ورد أن جهاز الأمن الأوكراني دبرها وأطلق عليها اسم "الشبكة العنكبوتية"، 117 طائرة مسيرة مهربة إلى روسيا على مدى 18 شهراً. وتم تفعيل هذه الطائرات المسيرة، المخبأة في شاحنات ومبان، عن بعد لضرب مطارات رئيسية في مورمانسك، وإيركوتسك، وإيفانوفو، وريازان.كما أن الطائرات استخدمت الشبكات الروسية لنقل الفيديو إلى أوكرانيا، واستفادت من تقنيات التوجيه الآلي في تنفيذ المهمة.
علي رغم من تشابك التفصيلات المذكورة، الإ انه قد يثير تساؤلات حول دلالاته وأهميته ، وبالتالي فنحن أمام تنامي المعضلة الأمنية الحتمية حاليا المتمثلة في طبيعة الرد الروسي والتي قد يوظف هذا التغير النوعي لتبرير تصعيد أكبر فقد شبه المعلقون الروس المؤيدون للحرب علي شبكات التواصل الروسية، شبه الهجوم بهجوم بيرل هاربر عام 1941، ودعا بعضهم إلى رد عنيف، بما في ذلك توجيه ضربات نووية ما يعكس حجم الصدمة في الداخل الروسي.
وفي المقابل، تخشى كييف من أن يُنظر إلى العملية كمجازفة قد تضعف دعم حلفائها الغربيين خاصة مع تزايد الحذر من أي تصعيد قد يطيل أمد الحرب أو يخرجها عن السيطرة.
في القسم الاول من المقال سينصب الاهتمام علي استرسال الاهمية السياسية وتداعياته السياسية والعسكرية، إذ تكمن الأهمية الاستراتيجية لعملية “شبكة العنكبوت” ليس فقط في حجم الدمار الذي أحدثته، بل أيضًا في ما فرضته من إعادة تموضع جيوسياسي وعسكري على مستوى واسع. فقد وجّهت العملية ضربة قاسية لإحدى المسلّمات الراسخة في العقل الأمني الروسي، وهي أن قلب روسيا الجغرافي بمنأى عن الاستهداف. لقد شكّلت هذه الضربة صدمة نفسية عميقة للمؤسسة العسكرية الروسية، وربما تُعد من أكثر نتائج العملية تأثيرًا. إذ بات على روسيا، بعد هذه العملية، أن تعيد توزيع منظومتها الدفاعية على امتداد جغرافيتها الشاسعة، بدلًا من التركيز على الجبهة الغربية وحدها، حيث أظهرت أوكرانيا من خلال العملية أن قدرتها على الضربات العميقة باتت تمتد لآلاف الكيلومترات داخل العمق الروسي. ما يجبر الجانب الروسي على مواجهة واقع جديد مفاده أن كامل الأراضي الروسية أصبحت ميدانًا محتملاً للعمليات. وهو ما يفرض على موسكو إعادة النظر في تموضعها الدفاعي، ويُثقل كاهل منظومتها الجوية والأمنية الموزعة أصلاً بشكل ضعيف.
أما من الناحية العسكرية المباشرة، فإن الطائرات التي تم تدميرها خلال العملية تُفاقم الأزمة الاستراتيجية التي تواجهها روسيا. إذ تُعدّ القاذفات الاستراتيجية من طراز Tu-95 وTu-22M3 من المنصات القادرة على تنفيذ هجمات بصواريخ كروز بعيدة المدى، ما يجعل فقدانها أو خروجها من الخدمة ضربة مباشرة لقدرة روسيا على إسقاط قوتها خارج حدودها. كما تلعب طائرات الإنذار المبكر من طراز A-50 دورًا حيويًا في مهام المراقبة الجوية والتنسيق العملياتي. وبالتالي، فإن تضرّر هذه الأصول لا يقلّص فقط من القدرة الهجومية الروسية، بل يُضعف أيضًا من منظومتها الدفاعي، حيث كشف هذا الهجوم عن اختراق أمني استخباراتي غير مسبوق للعمق الروسي مع انكشاف أهداف حيوية حساسة روسية أمام هجمات مماثلة محتملة، بالنظر إلى أن تنفيذ هجوم جوي بهذا الحجم يتطلب معلومات دقيقة ومراقبة متقدمة لمنشآت عسكرية على بعد آلاف الكيلومترات من خطوط التماس.
وعليه، فإن القدرة الأوكرانية على تنفيذ مثل هذه العمليات تعني وجود ثغرات كبيرة في المنظومتين الأمنية والدفاعية الروسيتين، كما يعكس ضعفاً في الإجراءات الحمائية حول واحدة من أهم القواعد الجوية التي تحتضن قاذفات استراتيجية روسية
وبالتالي قد تكون للعملية تبعات على العقيدة النووية الروسية. فمن خلال الإضرار بمنصات الإطلاق والرصد بعيدة المدى، ربما تكون أوكرانيا قد مسّت بشكل غير مباشر بمصداقية الردع النووي الروسي، خصوصًا وأن بعض تلك القاذفات تُصنّف ضمن الأسلحة المزدوجة الاستخدام. وهذا من شأنه أن يُعقّد إدارة التصعيد في ظل تزايد اعتماد موسكو على خطاب الردع النووي التكتيكي.
على صعيد آخر، تُسهم العملية في تغيير السردية العامة للحرب. لم تعد أوكرانيا في موقع دفاعي بحت، بل باتت تفرض إيقاع الصراع وجغرافيته. ومن شأن هذا التحول أن يدفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلفاء كييف إلى إعادة تقييم عقائدهم ومواقفهم، لا سيما في ما يتعلق بتمكين أوكرانيا من امتلاك قدرات هجومية بعيدة المدى ووسائل استخباراتية متقدمة.
أما على المستوى الرمزي، فقد حملت العملية رسالتين واضحتين. أولاهما أن أوكرانيا نفذت الضربة بشكل مستقل، دون أي تدخل مباشر من الناتو أو دعم غربي مباشر، وذلك لتفادي ردود الفعل السياسية ضد الغرب. لم تُستخدم أسلحة غربية مثل صواريخ “توروس” طويلة المدى، بل عرضت كييف صورًا تُظهر استخدامها لصور أقمار صناعية تجارية عالية الدقة لتحديد مواقع القاذفات.
أما الرسالة الثانية، فهي أن لا منطقة داخل روسيا محصنة من العواقب. وهذا الاكتشاف لا يضرب فقط سردية روسيا حول السيطرة والسيادة، بل يغرس شعورًا باللايقين في أوساط الشعب الروسي والنخبة السياسية. وهذا الخوف، أكثر من الأضرار المادية نفسها، قد ينعكس على الديناميكيات السياسية الداخلية والرأي العام.
ففي خضم كشف دلالات وأهمية هذا الهجوم ، فأن هذه العملية تحمل في طياتها تبعات وتداعيات دبلوماسية، وهو ما يتناوله القسم الثاني من هذه المقالة، إذ جاء توقيت تنفيذ عملية “شبكة العنكبوت” قبل يوم من الجولة الثانية من انطلاق مفاوضات السلام في إسطنبول في 2 يونيو ، وليس ذلك من قبيل الصدفة. فمن الزاوية الدبلوماسية، غيّرت الضربة بشكل كبير توازن القوى على طاولة التفاوض، فقد منحت أوكرانيا ورقة قوة جديدة لتعزيز موقفها التفاوضي بإظهار قدرتها على تنفيذ عمليات دقيقة وعميقة داخل الأراضي الروسية، رغم محدودية الدعم العسكري الغربي. كما يُفسر الهجوم كرسالة مفادها أن كييف لن تقبل بأي تسوية تُفرض عليها دون ضمانات أمنية حقيقية واستعادة سيادتها الكاملة.
من وجهة نظر موسكو، شكّلت الضربة إحراجًا عسكريًا ودبلوماسيًا. داخليًا، طرحت العملية تساؤلات حرجة حول فعالية الدفاعات الجوية الروسية، وحول كفاءة الأمن الداخلي. أما على الساحة الدولية، فقد أضعفت من سردية الهيمنة أو الحتمية الروسية في الصراع، وهو ما من شأنه أن يقلّص من قدرة الكرملين على فرض شروطه، وربما يدفعه إلى تقديم تنازلات لم تكن واردة سابقًا.
وهو ما ساهم في انحسار نتائج الجولة الثانية من المحادثات المباشرة التي انعقدت في إسطنبول حيث تم الاتفاق على تبادل جثث الجنود القتلى والأسرى، لكن لم يُحرز أي تقدم يُذكر نحو إنهاء الحرب أو حتى الاتفاق على وقف لإطلاق النار
ومع ذلك، يبقى خطر التصلب قائماً. فإذا ما بدت أوكرانيا وكأنها تستغل تفوقها العسكري الجديد دون رغبة حقيقية في التفاوض، فقد يدفع ذلك روسيا إلى تشديد مواقفها أو حتى التصعيد عسكريًا- بصرف النظر عن الرد المتكافئ - ، ربما عبر استهداف شخصيات قيادية أو بنى تحتية أوكرانية حساسة.
كما تُعدّ العملية جرس إنذار للحلفاء الغربيين. فهي تُظهر عائد الاستثمار في دعم أوكرانيا تقنيًا، خاصة في مجالات الطائرات المسيّرة والأنظمة الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي. ومن المرجح أن تُشجّع هذه النجاحات على زيادة التمويل، وتسريع نقل التكنولوجيا، وتعزيز التعاون الدفاعي، وهو ما يفسر أصدار الوثيقة التي تبلغ 130 صفحة للتحول نحو "الجاهزية الحربية" لردع ما تسميه بـ العدوان الروسي بشأن مراجعة استراتيجية للدفاع في بريطانيا والمتعلقة بضرورة الاستعداد لخوض حرب في أوروبا أو المحيط الأطلسي.
ختاماً، أعادت “شبكة العنكبوت” رسم خريطة التفاوض، خاصة أن تصاعد حدة الضربات بالطائرات المسيّرة والصواريخ قد قضى فعليًا على آمال تحقيق وقف إطلاق نار ولو مؤقت، ناهيك عن سلام دائم، وهو ما تؤكده جولة المحادثات الثانية في إسطنبول التي عُقدت في 2 يونيو، والتي لم تسفر عن أي نتائج ملموسة، بل زادت من تعقيد المشهد جراء تصاعد التأويلات والسيناريوهات المتوقعة لطبيعة الرد الروسي
0 تعليق