الحياة الزوجية، في جوهرها، مساحة خاصة بين شخصين قررا أن يربطا مصيرهما سويًا. هي مساحة تنمو بالحب، وتتغذى على الثقة، وتزدهر حين تكون لها حدود واضحة تحميها. لكن في مجتمعاتنا العربية، حيث الروابط العائلية قوية والحب بين أفراد الأسرة ممتد وعميق، قد يتسلل التدخل المفرط من الأهل إلى قلب هذه المساحة، أحيانًا بدافع الحب، وأحيانًا بدافع القلق، لكنه — مهما حسنت النية — قد يتحول إلى عامل يهدد استقرار العلاقة.
حين يتكرر التدخل في القرارات الصغيرة والكبيرة، يبدأ الزوجان بفقدان القدرة على صياغة مسار حياتهما بأنفسهما. المشاعر هنا معقدة؛ فهناك الامتنان للأهل على الدعم، وفي الوقت نفسه الإحباط من فقدان السيطرة على القرارات. هذا التداخل بين الامتنان والانزعاج يخلق توترًا داخليًا يتسرب إلى الحوار اليومي ويؤثر على دفء العلاقة.
فالتدخل المفرط يضغط على الاحتياجات العاطفية الأساسية لدى الزوجين. فالإنسان يحتاج إلى الشعور بالاستقلالية حتى ينمو، وعندما يشعر أحد الطرفين أن حياته مكشوفة أو أن قراراته تُراجع باستمرار، يتولد بداخله شعور بالنقص أو بعدم الكفاءة. هذه المشاعر قد تتحول مع الوقت إلى دفاعية، أو إلى انسحاب عاطفي، وكلاهما يضعف الرابط الزوجي.
أما تأثيره على مشاعر الرجل، فيرتبط غالبًا بإحساسه بدوره ومسؤوليته. كثير من الرجال يرون في قدرتهم على اتخاذ القرارات وحماية الأسرة جزءًا من هويتهم العاطفية. وعندما يشعر الرجل أن قراراته تُعاد صياغتها من الخارج أو أن رأيه يُهمَّش، قد يختبر إحساسًا بالتهديد أو بفقدان القيادة داخل بيته، حتى لو لم يُظهر ذلك علنًا. هذا الإحساس قد يدفعه أحيانًا إلى الانغلاق أو الرد بعناد، كطريقة لحماية ما يراه حقًا طبيعيًا له.
أما المرأة، فغالبًا ما تعيش التدخل بشكل مختلف، إذ قد يثير في داخلها شعورًا بعدم الأمان العاطفي إذا شعرت أن حياتها الزوجية لم تعد ملكًا لها بالكامل. بعض النساء يختبرن ضغطًا نفسيًا حين يجدن أنفسهن بين ولائهن لأسرتهن الأصلية ورغبتهن في حماية حياتهن الخاصة. ومع الوقت، إذا لم تجد الزوجة مساحة آمنة تُحترم فيها خصوصيتها، قد تبدأ في بناء جدران صامتة حول مشاعرها، فتقل قدرتها على التعبير أو المبادرة بالعاطفة.
الحل لا يكمن في القطيعة مع الأهل أو رفض وجودهم، بل في رسم حدود واضحة بأسلوب يحافظ على الاحترام. الحدود هنا ليست جدرانًا تعزل، بل أبوابًا يمكن فتحها وغلقها حسب الحاجة. وهي تبدأ من اتفاق الزوجين على ما يخصهما وحدهما، وعلى أسلوب واحد للتعامل مع تدخلات الخارج، بحيث يُقدَّم للأهل صوت واحد متماسك لا يفتح باب الخلاف بينهما.
التدخل المفرط، على المدى الطويل، يترك أثرًا عاطفيًا عميقًا؛ إذ يجعل الزوجين يعيشان في حالة من "الاستعداد الدفاعي" بدلًا من حالة "الأمان العاطفي". هذا الشعور المستمر بأن العلاقة تحت المجهر قد يحد من تلقائية التصرفات ومن مساحة المزاح والحب العفوي، لأن هناك وعيًا دائمًا بوجود طرف ثالث في الخلفية. ومع الوقت، قد يشعر كل طرف بأن الحب الذي كان يتدفق بحرية صار يحتاج إلى إذن بالمرور.
لذلك، فإن مواجهة التدخل المفرط تحتاج إلى شجاعة هادئة؛ شجاعة في الحديث مع الأهل بوضوح، وفي الوقت نفسه شجاعة في مواجهة الذات، لفهم كيف يمكن لكل طرف أن يكون جزءًا من حل المشكلة بدلًا من تكريسها. بناء الثقة بين الزوجين هو الحصن الأول، والاتفاق على أسرار مشتركة وخطط خاصة يخلق شعورًا بأن العلاقة تملك قلبًا نابضًا لا يصل إليه إلا من اختاره الزوجان.
في نهاية الأمر، الزواج يشبه بستانًا صغيرًا نزرع فيه أحلامنا وأسرارنا، وإذا تُرك الباب مفتوحًا طوال الوقت، سيدخل من يشاء، وقد يعبث أحدهم بالتربة دون قصد. الأهل قد يكونون شمس هذا البستان وماؤه، لكننا نحن من نمسك بأدوات العناية. علينا أن نعرف متى نسمح للدفء بالدخول، ومتى نغلق الأبواب لنحافظ على نمو الحب في بيئته الآمنة. فالعلاقة التي تحمي خصوصيتها تنضج، وتزهر، وتقاوم تقلبات الفصول.
0 تعليق