خميس بن بريك
Published On 2/9/20252/9/2025
|آخر تحديث: 20:21 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:21 (توقيت مكة)
تونس- بعد أن قطع مسافات طويلة ذهابا وإيابا من محافظة زغوان (شمال شرق تونس) إلى مستشفى صالح عزيز المتخصص في معالجة الأمراض السرطانية في العاصمة طيلة 3 أشهر، لم يفلح المواطن عبد الله رواغ في الحصول على دواء أو تحديد موعد يفتح باب العلاج الكيميائي لأخته المريضة.
ويعج المستشفى بالمرضى المصابين بأورام خبيثة، فمنذ بزوغ الفجر يأتي الكثيرون من مناطق متفرقة وبعيدة من العاصمة تونس، ويقضي بعضهم الليل في الممرات، وينتظر الجميع ساعات طويلة لمقابلة الأطباء أو الحصول على دواء أو متابعة حصص العلاج الكيميائي.
لم يستطع عبد الله إحضار شقيقته "ربح" هذه المرة معه لمقابلة الطبيب لإعادة فحصها، إذ فقدت القوة على الحركة وحتى الجلوس على الكرسي، وكان يأمل الحصول على دواء لها أو موعد للعلاج الكيميائي، لكن الطبيب طلب حضورها مرة أخرى مضيفا ساعات جديدة من المعاناة والانتظار.
معاناة متواصلة
خارج المستشفى يمسك عبد الله رواغ هاتفه بيد مرتعشة واضعا تحت إبطه ملف أخته الممتلئ بالتحاليل والتقارير الطبية وهو يخاطب أهله بمحافظة زغوان بصوت متلعثم ومرتبك لإرسال أخته في سيارة أجرة على جناح السرعة، خشية أن يغادر الطبيب وتفقد موعدها معه.
ويقول عبد الله للجزيرة نت "هذه المرة العاشرة التي أتنقل فيها بين زغوان والعاصمة برفقة أختي، تم تحديد موعد اليوم مع الطبيب لتمكينها من دواء مسكّن وأخذ موعد العلاج الكيميائي، لكن لم نحصل على شيء، وطلب الطبيب إحضارها ثانية أو أنه سيؤخر موعدها".
يعيل عبد الله زوجته وأبناءه الثلاثة عبر عمله اليومي غير المنتظم، لكن رغم ظروفه الصعبة ترك مشاغله وانكب على رعاية أخته التي فاجأها المرض قبل 4 أشهر وجعلها طريحة الفراش تتألم، بعد أن كانت تكسب قوت يومها بعرق الجبين كعاملة فِلاحة كادحة.
مع الاحتكاك بالمرضى أصبح عبد الله يعيش حالة نفسية متأزمة انعكست بوضوح على وجهه الشاحب وعينيه الباهتتين وجسده المرهق، وزاد إحباطه أكثر مشاهد الاكتظاظ والطوابير الطويلة والانتظار لساعات وتحديد المواعيد لفترات متباعدة ونقص في الأدوية.
إعلان
وحسب المراقبين فقد تفاقمت أزمة نقص الأدوية منذ السنوات الأخيرة، خصوصا بالنسبة للأدوية الحيوية والمستحضرات اللازمة لعلاج الأمراض المزمنة، بما في ذلك السرطانات وألزهايمر، مما يجعل متابعة العلاج لكثير من المرضى صعبة ويضاعف معاناتهم اليومية.

وفي السياق نفسه يروي الموظف الحكومي محمد نواويري للجزيرة نت معاناة والده الثمانيني المصاب بمرض ألزهايمر، الذي أدى لتدهور قدراته الذهنية وفقدانه الذاكرة، مما جعله يتوه في أبسط تفاصيل الحياة اليومية، ما ضاعف مشقة رعايته وأثقل كاهل الأسرة.
ويشير مختصون إلى أن العديد من مرضى ألزهايمر يواجهون تحديات إضافية، حيث يصابون أحيانا بنوبات صرع تستوجب علاجا بأدوية خاصة، لكن هذه الأدوية غالبا ما تنقطع من الصيدليات والمستشفيات العمومية، وهو ما يفاقم معاناتهم ويجعل الرعاية اليومية أكثر صعوبة.
يقول محمد للجزيرة نت: إن فقدان الدواء الخاص بالصرع جعل والده يدخل في وضع مربك، إذ تتكرر النوبات بشكل يهدد حياته. ويضيف "أحيانا نبحث في كل مكان عن الدواء لكننا لا نجده، وفي النهاية نضطر لإعطائه حبوب نوم حتى يهدأ قليلا، وهذا الخيار الوحيد لدينا".
ترشيد أم تقشف؟
وعاد الجدل بشأن نقص الأدوية ليطفو من جديد على سطح الأحداث في تونس، مع تزايد شكاوى المواطنين من صعوبة الحصول على علاجات حياتية وأخرى مخصصة للأمراض المزمنة.
وتعمّق الجدل بعد دعوة وزارة الصحة الأطباء، في بلاغ رسمي، إلى ترشيد الوصفات الطبية لضمان استمرارية التزويد وتفادي انقطاعات قد تهدد حياة المرضى.
وأثارت هذه الدعوة موجة استياء واسعة على منصات التواصل، حيث اعتبرها البعض خطوة للتقشف على حساب صحة المرضى، في حين أوضحت وزارة الصحة أن الهدف من الترشيد ليس الحد من حصول المرضى على العلاج، بل تحسين حوكمة المنظومة الدوائية.
وشددت الوزارة على أن ما تم تداوله من تأويلات حول نيتها "خاطئ ومضلل"، داعية المواطنين لتفهم الإجراءات في إطار معالجة أزمة التزويد.
ويرى مراقبون أن الوزارة لم تتطرق إلى جذور الأزمة الحقيقية في قطاع الأدوية، واكتفت بإصدار بلاغات اعتُبرت مجرد مسكنات إعلامية.
وعاد النقص الحاد في الأدوية ليطفو منذ أيام، خاصة بعد وفاة شابين تونسيين من مرضى السرطان، إثر رفض الصندوق الوطني للتأمين على المرض (الذي يُعنى بتغطية تكاليف العلاج الطبي للمنخرطين) قبول ملفاتهم للحصول على العلاج اللازم.
ويشتكي المواطنون من:
طول اجراءات استرجاع مصاريف أدويتهم. رفض ملفاتهم للحصول على الأدوية. عدم وجود أدوية في صيدليات المستشفيات العمومية وحتى بعض أنواع الأدوية الدقيقة في الصيدليات الخاصة. ارتفاع أسعار الأدوية.
"حلقة مفرغة"
ويؤكد الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن أزمة نقص الأدوية في تونس ليست مجرد خلل لوجستي أو إداري، بل تعود أساسا إلى أزمة سيولة خانقة تعيشها الصيدلية المركزية، نتيجة تراكم ديونها لدى الصناديق الاجتماعية التي تعاني بدورها من عجز مالي مزمن.
إعلان
ويقول للجزيرة نت "أزمة نقص الدواء مرتبطة مباشرة بأزمة السيولة المالية لدى الصيدلية المركزية، التي تعانيها بسبب عدم حصولها على مستحقاتها من الصندوق الوطني للتأمين على المرض الذي يعاني بدوره من عدم حصول مستحقاته من بقية الصناديق الاجتماعية".
ويضيف أن هذا الوضع خلق حلقة مفرغة أثّرت مباشرة على التزود بالأدوية وأدخلت البلاد في دوامة انقطاعات متكررة.
ويشير الشكندالي إلى أن ما يثير الاستغراب هو الارتفاع المستمر في أسعار الأدوية، رغم ما يسميه "المفارقة المالية"، إذ إن الدينار التونسي حافظ نسبيا على استقراره في الفترة الأخيرة بفضل تراجع سعر الدولار عالميا، ما كان يفترض أن يخفف كلفة التوريد بدل زيادتها.
كما أشار إلى أن الدولة أقرت في قانون المالية إعفاءات ضريبية وجمركية لفائدة الصيدلية المركزية عند توريد الأدوية، ما يجعل ارتفاع الأسعار غير مبرر من الناحية الاقتصادية، وفق تقديره.
0 تعليق