في موقف مفاجئ غير معهود وجه المستشار الألماني فريدريش ميرتس انتقادات علنية صريحة للحرب الإسرائيلية على غزة. جاء ذلك خلال مشاركته يوم 26 مايو/ أيار 2025 في مؤتمر re:publica الرقمي في برلين، حيث أدلى بتصريحات أعرب فيها عن استيائه من الأوضاع الإنسانية المزرية في غزة، وقال إنه بات غير قادر على استيعاب الهدف من العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في القطاع، وإن حجم معاناة المدنيين "لم يعد من الممكن تسويغها بمحاربة إرهاب حماس".
إن انتقاد إسرائيل على الملأ من أعلى هرم السلطة في ألمانيا يعد بحق سابقة في السياسة الألمانية الرسمية، وتحولًا لافتًا مثيرًا للدهشة والتساؤل على حد سواء. إذ إنها المرة الأولى، منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة، التي يتجرأ فيها مستشار ألماني، ويصرح علانية بأن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي اليوم قد يُعد انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، وبالتالي لا يمكن الاستمرار في التغاضي عنه دون رد.
فكيف يمكن تفسير هذا التحول المفاجئ في الموقف السياسي الألماني؟ وما الدوافع الحقيقية وراء هذه الانتقادات الخجولة التي باتت تلوكها ألسنة بعض الساسة الألمان في الأيام الأخيرة؟ وهل تُنذر هذه النبرة غير المألوفة في الخطاب الرسمي، فعلًا، ببوادر تحول جذري في السياسات الألمانية تجاه النزاع الإسرائيلي الفلسطيني؟
إعلان
لقد ظلت الحكومة الألمانية، طوال التسعة عشر شهرًا الماضية وفيّة لموقفها المنحاز لإسرائيل، قولًا وفعلًا. فمنذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة، سخّرت برلين إمكاناتها المادية والمعنوية الهائلة لتقديم دعم مطلق وغير مشروط لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.
ولم يقتصر ذلك على مواصلة تزويد إسرائيل بالسلاح الألماني، أو الإصرار على إنكار ارتكابها جرائم حرب – عبر التلويح عقب كل مجزرة بـ "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" – فحسب، بل حرصت أيضًا على تسخير آلتها الدبلوماسية لتلميع صورتها في المحافل الدولية، من خلال تسويغ جرائم الحرب في غزة، وتبني سردية بروباغندا الحكومة الإسرائيلية، كما فعلت وزيرة الخارجية السابقة، أنالينا بيربوك، حين دافعت في الذكرى السنوية الأولى ليوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول عن قصف إسرائيل المدارس والمستشفيات، وأكدت أنها أوضحت أمام الأمم المتحدة أن المنشآت المدنية قد تفقد حصانتها، فيجوز بالتالي استهدافها- حسب منطق الوزيرة- لمجرد "أن الإرهابيين يستغلون وضعها الحمائي".
إذًا، كيف يمكن أن نحْمل تصريحات المستشار الألماني على محمل الجد، ونصدق أنه بات فجأة يكترث لانتهاك القانون الدولي الإنساني، ويعتبره خطًا أحمرَ يدفع تجاوُزُه ألمانيا – رغم مسؤوليتها التاريخية – إلى اتخاذ موقف واضح إزاء إسرائيل، وهو الذي حرّض بالأمس القريب، حين أصدرت الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، الحكومةَ الألمانية على عدم الامتثال لها، ودعا في 24 فبراير/ شباط 2025، مباشرة بعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، نتنياهو لزيارة ألمانيا، وصرح بأنه لن يعدم السبل والوسائل التي سيلتف بها حول قرار المحكمة، ويتيح لرئيس الوزراء الإسرائيلي زيارة ألمانيا دون أن يتعرّض للاعتقال؟
إن القانون الدولي الإنساني لم يُنتهك من قِبل إسرائيل فجأة بالأمس، بل دأبت على انتهاكه بشكل ممنهج منذ بداية الحرب. فبعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أطلقت إسرائيل سلسلة من التصريحات الموثقة المثيرة للجدل، كان أبرزها ما صدر عن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق الذي دعا قواته أمام الملأ إلى التنكيل بالفلسطينيين، وقطع الماء، والغذاء، والوقود، والكهرباء عن غزة، والتعامل مع سكانها باعتبارهم "حيوانات بشرية"، علاوة على تصريحات سموتريتش، وبن غفير، وباقي الغلاة في الحكومة الإسرائيلية الذين ما انفكوا يدلون بتصريحات مقيتة تظهر احتقارهم الصريح للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، والقانون الدولي.
إعلان
كما أن نية جريمة الإبادة الجماعية المُبيّتة لدى الحكومة الإسرائيلية كانت واضحة على الأقل منذ 28 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، حين استشهد نتنياهو خلال خطاب موجه إلى الجيش الإسرائيلي، بآية من التوراة تدعو إلى إبادة العماليق: الرجال، والنساء، والأطفال، والرضع، ولم تَستثنِ من الإبادة حتى البهائم. وكانت رسالة نتنياهو من اقتباسه التوراتي واضحة لا تحتمل التأويل. ولهذا كان هذا التصريح من جملة ما استندت إليه جنوب أفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية التي قدمتها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
إن هذا التغيير الطفيف في خطاب الحكومة الألمانية تجاه إسرائيل لا يعدو أن يكون سوى محاولة لذرّ الرماد في العيون، ولا يعكس بالضرورة تحولًا جوهريًا في الموقف السياسي الألماني، فهو لم يأتِ نتيجة قناعة ذاتية حقيقية، بل جاء كمحاولة استدراك فرضتها تطورات إقليمية ودولية متسارعة، جعلت من الموقف الألماني، القائم على الدعم المطلق وغير المشروط لإسرائيل، موقفًا معيبًا ومعزولًا حتى داخل محيطه الأوروبي والغربي.
فالموقف الألماني المنحاز لإسرائيل ليس عاملًا متغيرًا كالمواقف السياسية الأخرى التي تخضع لميزان القيم أو مبدأ الربح والخسارة، وإنما هو – على الأقل حتى الآن- عامل ثابت فوق القيم، وعقيدة راسخة في سياسة ألمانيا ما بعد العهد النازي، وعنصر مهم، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في عملية التكفير عن جريمة الهولوكوست.
وفي هذا السياق فقط، يمكن تفسير القرار الذي اعتمده بالإجماع المجلس الاتحادي الألماني – الذي يمثل الولايات الألمانية الستة عشر- في 23 مايو/ أيار 2025 بمناسبة الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين ألمانيا، وإسرائيل، والذي أكد فيه – بعد 19 شهرًا من حرب الإبادة الجماعية على غزة – أنه لا يزال يقف بحزم إلى جانب إسرائيل، ويعلن التزامه بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس.
إعلان
ولم يشر ولو بكلمة واحدة إلى الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني، وإنما اكتفى فقط بدعوة الحكومة الألمانية إلى مواصلة العمل مع شركائها "من أجل خفض التصعيد في المنطقة، والضغط على جميع الأطراف المشاركة في النزاع لاحترام القانون الدولي، ولا سيما القانون الدولي الإنساني".
وهذا ما يفسر أيضًا التناقض الصارخ بين تصريحات المستشار الألماني المنتقدة لإسرائيل، وبين غياب سياسة فعلية تترجم تلك التصريحات إلى واقع ملموس، كتعليق صادرات الأسلحة أو الانضمام إلى موقف فرنسا، وبريطانيا، وكندا التي هددت باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل إذا لم توقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على قطاع غزة.
وإذا كانت الدبلوماسية الألمانية قد نجحت إلى حد ما خلال العقود الماضية في "إمساك العصا من الوسط" عبر إحداث نوع من التوازن النسبي بين ما تصفه بـ "مسؤوليتها التاريخية" تجاه إسرائيل، وبين التزاماتها الأخلاقية المعلنة تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان، فإنها بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قد تخلت فعليًا عن هذا التوازن، لتتبنى انحيازًا مطلقًا لإسرائيل على حساب ما كانت تتشدّق به من القيم، بل وحتى المصالح الإستراتيجية طويلة الأمد لألمانيا نفسها.
إن هذا الموقف الثابت زجّ بألمانيا في نفق سياسي مسدود، وبات يعطي اليوم – كما يرى إيلان بابيه – انطباعًا بأن الدولة الألمانية قد تضلُّ الطريق مجددًا، وتبتعد مرة أخرى عن مبدأ الإنسانية. وما يبعث على القلق وخيبة الأمل، بحسب بابيه، هو أن ألمانيا كدولة لم تستوعب حتى الآن بشكل كامل وصادق الدروس الأخلاقية التي كان ينبغي أن تستخلصها من تاريخها المظلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق