الوجودية في الإدارة ..فلسفة حياة - هرم مصر

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ ظهور الوجودية في الفكر الفلسفي خلال القرن التاسع عشر، وهي تثير نقاشاً واسعاً حول معنى الحرية والاختيار والمسؤولية. فالوجودية تقول إن الوجود يسبق الماهية؛ أي أن الإنسان يوجد أولاً، ثم يحدد بنفسه معناه وغاياته من خلال اختياراته وأفعاله، بدلاً من أن تكون محددة سلفاً بقوانين أو طبيعة ثابتة.
المثير أن هذه الفلسفة لم تبق حبيسة الكتب والجدل الأكاديمي، بل امتدت لتلامس مجالات متعددة من الأدب والفن والسياسة وحتى الإدارة. فمؤسسات اليوم لا تلبّيها النماذج التقليدية التي تنظر إلى الموظف باعتباره ترساً في آلة أو مجرد منفّذ للتعليمات. هنا تبرز الوجودية كمنهج مختلف، يضع الإنسان في قلب العملية، ويرى أن القيم ليست مبادئ شخصية فقط، بل أسس إدارية قادرة على تحويل طبيعة العمل والمؤسسات.
الإدارة في جوهرها فنّ التعامل مع البشر، والبشر بطبيعتهم يبحثون عن المعنى، ويتأرجحون بين القلق واليقين، ويحتاجون إلى مساحة للاختيار والتجريب. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الوجودية ليس كفلسفة نظرية مجردة، بل كأداة عملية لإعادة تعريف القيادة وبناء بيئات عمل أكثر إنسانية. فهي تدعو المديرين إلى أن يكونوا أكثر أصالة، وأن يمنحوا موظفيهم الحرية مع ربطها بالمسؤولية، وأن يقبلوا بوجود اللايقين كجزء من واقع الأعمال، وأن يساعدوا فرقهم على إيجاد معنى يتجاوز الرواتب والمهام اليومية.
بعبارة أخرى، تمثّل الوجودية مرجعاً مهماً للقادة الذين يسعون إلى بناء مؤسسات مرنة وفاعلة، قادرة على مواجهة تحديات العصر، لا بالاعتماد على القوالب الجاهزة، بل عبر تمكين الإنسان ومنحه القدرة على صناعة مستقبله ومستقبل مؤسسته. وربما وجب عليّ هنا أن أسأل بلسانك عزيزي القارئ: كيف يكون ذلك؟، وبعد أن سألت، سأخلع قبعة السائل وألبس قبعة المجيب.
ترى الوجودية أن الإنسان حر في اختياراته، لكنه مسؤول عن تبعاتها. في بيئة العمل، يترجم هذا المبدأ إلى ثقافة تمنح الموظفين حرية اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية في الوقت نفسه. فبدلاً من الإدارة التقليدية القائمة على الأوامر والرقابة، يصبح المدير قائداً يثق بفريقه، ويوفر له الإطار والقيم العامة، ثم يترك له مساحة للابتكار والتجريب. النتيجة المتوقعة من ذلك هي ارتفاع مستوى الدافعية وروح المبادرة، وانخفاض الميل إلى التنصل من المسؤولية أو تعليق الأخطاء على الآخرين.
الأصالة مفهوم محوري في الفكر الوجودي. الإنسان الأصيل هو من يعيش وفق قيمه الخاصة لا وفق ما يفرضه الآخرون. في الإدارة، يظهر هذا في القائد الذي يحدد بوضوح قيمه ومبادئه، ويتصرف وفقها باستمرار، بعيداً عن المجاملة أو الأقنعة التنظيمية. هذا النمط القيادي يولّد الثقة داخل المؤسسة، ويعزز التزام الموظفين، إذ يرون في قائدهم نموذجاً صادقاً يعكس ما يقول بالفعل.
الوجودية تعترف بأن الحرية المطلقة تولّد شعوراً بالقلق، لكن هذا القلق جزء من التجربة الإنسانية. في عالم الأعمال، تتجسد هذه الفكرة في مواجهة التحديات الاستراتيجية والتحولات الرقمية والظروف الاقتصادية المتغيرة. القادة الوجوديون لا يهربون من هذا القلق ولا يبحثون عن يقين زائف، بل يتقبلونه كجزء من عملية اتخاذ القرار، ويتعاملون مع اللايقين بشجاعة ومرونة.
الإنسان، من منظور الوجودية، يصنع معنى حياته بنفسه. في الإدارة، تقع على القادة مسؤولية صناعة معنى العمل للآخرين، عبر ربط المهام اليومية بالقيم والرؤية الكبرى للمؤسسة. الموظف الذي يجد معنى في عمله يكون أكثر التزاماً وأعلى إنتاجية، بينما يؤدي غياب المعنى إلى فتور وانسحاب داخلي وربما إلى ارتفاع نسب الاستقالات، أو ما نربطه إدارياً بارتفاع الدوران الوظيفي.
ترفض الوجودية الحياد السلبي، وتؤكد أن على الإنسان أن يلتزم بالفعل ويحدد موقفه. في الإدارة، هذا يعني أن القائد لا يكتفي بالشعارات أو البيانات العامة، بل يترجم القيم إلى قرارات عملية، ويتحمل مسؤولية المواقف حتى في الظروف الصعبة أو أمام القرارات غير الشعبية. هذا الالتزام العملي يجعل القيادة أكثر مصداقية وفاعلية.
تقدم الوجودية للإدارة إطاراً عملياً يعيد الاعتبار للإنسان في قلب المؤسسة. فهي تدعو إلى حرية مسؤولة، وقيادة أصيلة، وتقبل اللايقين، وصناعة المعنى، والالتزام بالفعل. تبدو لي هذه المبادئ أكثر واقعية اليوم من أي وقت مضى، لأنها تساعد المؤسسات على بناء بيئات عمل إنسانية ومرنة، وتمنح القادة أدوات فكرية وأخلاقية لإحداث أثر حقيقي في فرقهم ومجتمعاتهم.
من نافلة القول: نحن بحاجة اليوم إلى المزيد من القادة الوجوديين، والمديرين القادرين على تبنّي النهج الوجودي في الإدارة.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق