الرباط- وقّع المغرب عقدا بقيمة 16.7 مليار درهم (1.6 مليار دولار) في فبراير/شباط الماضي مع شركة هيونداي روتيم الكورية الجنوبية، لتوريد 440 قطارا كهربائيا مزدوج الطابق، وأعلنت الشركة افتتاح أول فرع لها بالبلاد في أغسطس/آب الجاري.
وينتظر أن يشمل المشروع -الذي يُنجر بتمويل ميسر- تحديث البنية التحتية للنقل العام قبل استضافة كأس العالم المقررة عام 2030، وإدخال تقنيات متقدمة في الإشارات والتحكم، وتوسيع قدرة الخطوط لرفع سرعة الربط بين المدن والمطارات والموانئ.
تعكس هذه الخطوة الإستراتيجية -وفق خبراء وباحثين- التحول النوعي في إستراتيجية المغرب نحو جعل النقل السككي محورا للتنمية الاقتصادية وجسرا لتحقيق عدالة توزيع الفرص والموارد ويتوقع أن يخلق المشروع مئات الوظائف المباشرة وغير المباشرة، ويحرك قطاعات فرعية، مثل الهندسة المدنية ومواد البناء، ويزيد من القدرة التنافسية للصادرات المغربية، لكنه يطرح استدامة تمويل مثل هذه المشاريع الكبرى.
جرت هذه الصفقة في إطار مناقصة دولية محتدمة، مما يؤكد سعي المغرب دائما إلى عقد شراكات متعددة الاتجاهات، ومحاولة هذه الدول وضع موطئ قدم في المملكة التي تعتبر بوابة نحو أفريقيا.
رهان إستراتيجي
يراهن المغرب على توسيع الشبكة السريعة من طنجة (شمال) إلى مراكش (وسط) ثم أغادير(جنوب) قبل 2030، ورفع عدد المدن المخدومة إلى 43 (تغطية 87% من السكان)، و12 مطارا دوليا، و12 ميناء بشبكة السكك الحديدية بحلول عام 2040، مقارنة مع 23 مدينة و6 موانئ ومطار واحد حاليا.
ويؤكد الباحث في الاقتصاد الاجتماعي والتنمية البشرية محمد نظيف أن المغرب يمتلك مؤهلات قوية تجمع بين:
الاستقرار السياسي الموقع الجغرافي الكفاءات البشريةوهو ما جعله وجهة مفضلة للشركات الدولية.
ويضيف نظيف للجزيرة نت أن المغرب "بفضل دبلوماسيته الاقتصادية، نجح في جذب صفقات إستراتيجية، مثل هذا المشروع الذي تنافست عليه 4 دول كبرى"، منوها بأن هذه التجربة تؤكد أن المغرب يتمتع بقدرة تنافسية عالية لاستقطاب الشركات الدولية والاستفادة من خبراتها.

من جهته، يقول الخبير في الحوكمة وسياسة الإدماج يونس التايب -للجزيرة نت- إن المشروع سيخلق دينامية جديدة لاندماج الاقتصاد الوطني، ويمكّن مختلف الجهات من فوائد كبيرة تساعد على السير نحو عدالة مجالية أوسع في المغرب.
إعلان
ويضيف أن المشروع يتيح رفع تنافسية الاقتصاد الوطني ويشجع التكامل الاقتصادي بين الموانئ الكبرى والمراكز الحضرية والمناطق الصناعية واللوجستية، عبر تسهيل حركة البضائع والمنتجات، وتعزيز حجم التجارة الخارجية.
فرص عمل
ينتظر المغاربة أن تسهم مثل هذه الصفقات في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني عبر تنمية البنية التحتية وتوفير فرص شغل مباشرة وغير مباشرة، كما يقول أستاذ التعليم العالي محمد نظيف.
ويؤكد أن الشركة الكورية الجنوبية قد تحتاج، بحكم حجم المشروع، إلى خدمات المقاولات الصغرى والمتوسطة، كما يمكن أن توظف يد عاملة بمختلف مستوياتها التقنية والمهنية، كما يُنتظر أن تستفيد الكفاءات الوطنية من الاحتكاك المباشر بنظرائها الكورية، بما يعزز خبراتهم وينقل إليهم تقنيات حديثة.
يتوقع التايب أن يكون للمشروع أثر إيجابي على الموانئ المغربية، التي يبلغ نشاطها حاليا حوالي 92 مليون طن سنويا، مع نمو معدلات الطلب بنسبة نحو 6% سنويا، وطموح للوصول إلى ما بين 290 و370 مليون طن بحلول 2030.

ويضيف أن المشاريع المنتظرة ستؤدي إلى دعم البنى التحتية اللوجستية، وتأسيس مناطق صناعية وتجارية، وهو ما سيزيد حجم الطلب على العمالة في قطاعات متعددة، مثل الخدمات اللوجستية، والبناء، والنقل، والصناعات المتصلة.
من جهته، يشير المحلل الاقتصادي رشيد عميرو -في حديث للجزيرة نت- إلى أن هذا المشروع الأضخم في مجال النقل المستدام في المغرب، يهدف إلى خفض انبعاث الكربون بما يعادل 20 ألف طن سنويا، مع تقليص مدة السفر وحوادث المرور، ويفتح آفاقا جديدة للمدن الصاعدة في شمال ووسط المغرب، مثل مدينة بن سليمان التي يشيد بها أحد أكبر ملاعب مونديال 2030.
نقل التكنولوجيا
يهدف المغرب، وفق المخطط الوطني للنقل 2040، إلى تأهيل أكثر من 1200 مهندس وتقني في مجالات التشغيل، والصيانة، والإشارات المتقدمة بحلول عام 2030، مع التركيز على توطين المعرفة لضمان استدامة إدارة الشبكة.
ويؤكد عالم البيانات والخبير الاقتصادي زكريا بن جويد أن العقد يشمل كذلك برنامجا واضحا لنقل التكنولوجيا، إذ إن جزءا من التصنيع سيتم محليا، مما يفرض تدريب اليد العاملة وتأهيل الموردين المغاربة ضمن سلسلة القيمة العالمية.
ويشير إلى أن تزايد الطلب على النقل بالسكك (نحو 55 مليون مسافر في 2024) سيرفع الحاجة إلى مهارات في الهندسة، والصيانة الرقمية، وأنظمة الإشارات، وهو ما يدعم إنشاء مسارات تدريب متخصصة داخل منظومة المكتب الوطني للسكة الحديدية والشركاء الصناعيين.
ويضيف أن التجربة الصناعية المغربية تُظهر أن ربط الاستثمار الأجنبي بنقل التكنولوجيا يخلق قدرات قابلة للتصدير، فقد أصبحت صناعة السيارات القطاع الأول في التصدير سنة 2023 بـحوالي 141.7 مليار درهم (14 مليار دولار)، وهو ما يبرهن على جدوى سياسات "التوطين عبر المنظومات الصناعية".

ويوضح الباحث في المالية العمومية عميرو أن ربط القطار فائق السرعة بمطاري الدار البيضاء والرباط، وميناء طنجة المتوسطي سيعزز مكانة المملكة ضمن سلاسل القيمة العالمية، ويزيد جاذبية الاستثمار، ويدعم الوجهات السياحية.
إعلان
لكنه يشدد على أنه -بالموازاة مع هذا الزخم الاستثماري في المملكة- يجب الاهتمام بالبنية التحتية في القرى والمدن الصغيرة التي لن تجرى فيها مباريات كأس العالم، وذلك لتحقيق تنمية اقتصادية قادرة على وقف آفة الهجرة نحو المدن الكبيرة.
تمويل تنافسي
تعد الصفقة مع الشركة الكورية الجنوبية جزءا من مشروع لتطوير السكة الحديدية في المغرب، الذي بلغ إجمالي قيمته نحو 35.1 مليار درهم (3.5 مليارات دولار)، بما في ذلك مشروع القطار الكهربائي ومشروع السكك الحديدية فائقة السرعة، وتنافست عليه شركات عالمية من فرنسا وإسبانيا والصين.
وللفوز بهذه الصفقة، حصلت الشركة الكورية على دعم حكومي غير مسبوق، لم تحظ به أي شركة أخرى، مكّنها من رفع سعر سهمها 126% خلال 4 أشهر.
حصل المغرب على هذا القرض غير المسبوق بمعدل فائدة سنوي منخفض جدا قدره 0.05%، وفترة سداد تمتد إلى 40 عاما.
ويبرز الأكاديمي المغربي بن جويد أن المغرب ينوّع شركاءه لتعظيم القيمة المضافة ونقل التكنولوجيا والتمويل الميسر، كما أن الشركة الكورية نفسها تعلن اعتبار المغرب منصة طويلة الأمد للتوسع، وهو ما يفسر حدة التنافس الدولي على هذه السوق.
ويؤكد الباحث عميرو أهمية هذه الورش الكبرى، لكنه ينبه إلى ضرورة التفكير في آليات جديدة لتمويلها، من أجل الحفاظ على استدامة المالية العمومية على المدى المتوسط والطويل.

ويوضح أن محاربة التهرب الضريبي تمثل إحدى هذه الآليات التمويلية، ويمكن أن تساعد على خفض الدين العام الذي بلغ تريليون درهم (100 مليار دولار) سيتحتم على الأجيال القادمة سداده.
ويمكن أن تخفف من الضغط الضريبي -الذي وصل إلى ما يناهز30% من الناتج المحلي لعام 2022- لا سيما عن الطبقات الهشة والمتوسطة والمقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل أكثر من 90% من نسيج المقاولات في المغرب.
0 تعليق