غزة- وقف علاء خلف، وهو شاب في مقتبل العشرينيات، منهارا أمام مستشفى ناصر في خان يونس، وهو يحتضن جسد صديقه المصور الشهيد محمد سلامة، وقد غطته الدماء وغابت عنه ملامح الحياة.
كان المشهد أكبر من احتماله، فالكاميرات التي لطالما رافقت محمد في تغطية المآسي أصبحت الآن شاهدة على رحيله. وبعينين دامعتين وصوت مبحوح من البكاء، صاح علاء: "صديقي وأخي محمد! كان عيني التي أرى بها الحقيقة.. لماذا غُيِّبت عيناه هكذا؟".
بدوره، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بعد ساعات من القصف أن عدد الصحفيين الشهداء ارتفع إلى 245 منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ كان آخرهم -حسب البيان- كلا من المصور محمد سلامة، والصحفية مريم أبو دقة، والمصور حسام المصري، والصحفي معاذ أبو طه، والصحفي أحمد أبو عزيز.
لكن على أرض المستشفى، لم تكن الأرقام كافية لتوصيف الفاجعة، حيث فقدت غزة 5 من أبنائها الصحفيين في ساعات الصباح، بدا كل رقم وكأنه جرح جديد في ذاكرة المدينة.

عدسة لن تنكسر
لم يكن يتخيل علاء أن الساعات القليلة الماضية ستكون آخر مرة يرى فيها نظرات محمد، وهو يستعد لتصوير حياة النازحين داخل مجمع ناصر الطبي، فالقصف الذي اخترق الطابق الرابع في مبنى الياسين بالمستشفى، بدد كل شيء، وفي لحظة واحدة انقلب المشهد من عدسات تبحث عن الصورة إلى عيون تبكي الصحفيين الذين سقطوا وهم يؤدون واجبهم.
أمام المستشفى، حيث اختلطت الدماء بالعدسات المكسورة، جلس علاء قرب جثمان صاحبه، متذكرا وصيته الأخيرة: "مهما صار يا علاء، الكاميرا لازم تظل تحكي القصة".
لم يستطع الصديق المكلوم سوى أن يردد تلك العبارة وهو يحتضن الجثمان، كأنما يحاول إعادته للحياة، كان يعلم أن محمد لن ينهض، لكن صدى كلماته سيظل يرافقهم.
إعلان
اقتربت الجزيرة نت من علاء في تلك اللحظة، حيث امتزج بكاؤه بالفخر برفيقه، فقد كان يدرك أنه لم يمت هباء، بل رحل وهو يحمل رسالة كل الصحفيين في غزة، أن يبقى صوت الحقيقة أعلى من ضجيج الطائرات وصواريخ الاحتلال، وقال والدموع تنحدر على خديه "محمد مش بس أخوي، محمد كل صحفي وكل شاب حرّ في غزة".
وفي ساعات الظهيرة، بينما ازدحمت ساحة المستشفى بأهالي الشهداء، بدا علاء وكأنه يودّع محمد نيابة عن كل من عرفه، كان ينظر إلى الكاميرا الملطخة بالدم، ويردد "هذه الكاميرا ستظل أقوى من كل القنابل.. محمد استشهد، لكن عدسته لن تنكسر".
رفيق الأيام الطويلة
الصحفي عامر الفرا، زميل وصديق محمد سلامة، بدا صوته مرتجفا وهو يتحدث عن لحظة سماع الخبر: "كانت صاعقة، لا أستطيع أن أصف حجم الصدمة حين علمت أن محمد بين الشهداء".
وأضاف أن العلاقة التي جمعته بمحمد لم تكن مجرد زمالة عمل، بل أخوّة حقيقية عُمِّدت في نار الحرب، متحدثا عن زميله سلامة الذي انضم إلى شبكة الجزيرة -مع بداية الحرب- مصورا من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.
استرجع الفرا ليالي الحصار في مجمع ناصر، حين كان يتقاسم مع محمد رغيف الخبز القليل، ويتشاركان التغطية تحت أصوات الانفجارات، "كان محمد لا ينام، دائم الحضور، يلتقط الصور حتى ونحن نأكل أو نحاول أن نغفو قليلا" يروي الفرا، مؤكدا للجزيرة نت أن التغطية الصحفية في غزة ليست مجرد مهنة، بل إنها قدر يعيشه الصحفيون كأنهم جبهة قائمة بذاتها.
وبصوت محمّل بالحنين، حكى عامر عن موقف لن ينساه "في ليلة اشتد فيها القصف على القرارة، حيث أعيش، اتصل بي محمد منتصف الليل فقط ليطمئن، عرض أن يغامر ويأتي ليخرجني أنا وعائلتي من تحت القصف، كان قلبه كبيرا، واليوم رحل هذا القلب".
ويؤكد الفرا أن استهداف الصحفيين لن يكسر عزيمتهم، بل يزيدهم إصرارا على الاستمرار، "محمد علّمنا أن نكون شهودا على الحقيقة، ونحن سنبقى شهودا، حتى لو صرنا نحن الضحية التالية".
ومع كل كلمة كان عامر يرددها، كان صدى الغياب يثقل صوته، لكنه ختم قائلا "محمد لم يرحل، محمد في كل صورة سننشرها، في كل تقرير سنبثه، وفي كل صرخة حق نرفعها أمام العالم".
السند وصانع البسمة
أما الصحفي الحر تامر قشطة، فبدا متماسكا وهو يستعيد تفاصيل اللحظات الأولى بعد القصف، إذ يروي للجزيرة نت "كنت على درج المستشفى حين وقع الانفجار الثاني، شعرت أن النهاية اقتربت منا جميعا".
وكانت جهات محلية وحقوقية قد وثقت استهداف الطابق الرابع من مبنى الطوارئ في مستشفى ناصر الطبي في خان يونس صباح اليوم بقصف مزدوج، مما أسفر عن ارتقاء 20 شهيدا، بينهم الصحفيون الخمسة، إضافة إلى 15 من طواقم الدفاع المدني والأطباء والمسعفين، الذين هبوا لإنقاذ المصابين في القصف الأول.
قشطة وصف المشهد بالمأساوي، قائلا: "زملاء غارقون في دمائهم، كاميرات محطمة، ورؤوس مبتورة، ودّعنا 5 من أحبائنا، كانت لحظة مروعة"، قال وهو يستذكر صورة معاذ أبو طه وقد فارق الحياة بطريقة مفجعة.

وعن محمد سلامة، قال قشطة "كان خفيف الظل، يملأ المكان بابتسامته. لم يكن مجرد زميل، بل كان الفاكهة في خيمة الصحفيين، إذا دخل ابتسم الجميع".
إعلان
وأضاف أن محمد كان أكثر من مجرد ناقل للخبر، بل كان سندا لكل زملائه، "كان يخدمنا جميعا، لا يتأخر عن مساعدة أي صحفي، سواء في إصلاح المعدات أو في دعم نفسي وسط هذا الجحيم".
وختم قشطة شهادته بالقول "محمد غاب جسدا، لكنه سيبقى في كل صورة، في كل ذكرى، وفي كل لحظة نرفع فيها الكاميرا في وجه الاحتلال".
وفي جنازة محمد، اجتمع زملاؤه وأهله وأبناء مدينته، مرددين أن دماءه لن تذهب هدرا، فقد حمل المشهد رسالة واضحة للعالم "مهما حاول الاحتلال إسكات الكاميرات، سيظل هناك من يلتقط الصورة ويكتب القصة".
0 تعليق