صانعو الأدب ورافضو الأوسمة.. حين يصبح رفض الجائزة موقفا - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عالم الأدب، يمكن تمييز صنفين من الكتاب: صنف تلمع عيناه كلما رأى بريق الأوسمة، وصنف آخر يرفع حاجبيه بتأفف وكأنه يقول "احتفظوا بذهبكم، أنا أكتفي بالقهوة والورق". وفي الوقت الذي يتهافت فيه الكثيرون على صيد الجوائز في محافلها العالمية، حتى باتت أسماء بعضهم ملازمة لصخب النجومية والحضور الإعلامي، تحسَب لأقلية أخرى نزعتها المضادة؛ فمنهم من رفض الجائزة بعد التتويج، ومنهم من قاطعها طوال حياته الإبداعية، لأسباب تتنوع بين السياسي والأخلاقي، والإنساني والوجودي، أو الأدبي الخالص.

قبل أيام، غيّب الموت الكاتب الروائي المصري صنع الله إبراهيم عن عمر ناهز 88 عاما، وهو أحد الذين تبوّؤوا مقعدهم بجدارة في نخبة رافضي الجوائز. برحيله، يفقد المشهد الأدبي العربي أحد أبرز الكتاب الذين حولوا السرد إلى مساحة للمقاومة، وجعلوا من الكتابة فعلا سياسيا ونقديا بامتياز، ليظل إرثه شاهدا موثقا على تحولات التاريخ العربي المعاصر.

مبادئ تتحدى بريق الذهب

لم تحظ الجوائز الأدبية بإجماع بين الكتاب منذ نشأتها. ففي عام 1925، رفض الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو جائزة نوبل للآداب، ساخرا من مؤسسها بالقول "قد أغفر له اختراعه للديناميت، لكنني لا أغفر له اختراع جائزة نوبل". وفي عام 1926، رفض الروائي الأميركي سنكلير لويس جائزة "بوليتزر" المرموقة احتجاجا على قرارات تحكيم سابقة، قبل أن يقبل "نوبل" بعد 4 سنوات.

وعلى المنوال ذاته، رفض ويليام سارويان جائزة "بوليتزر" عام 1940 لأسباب مبدئية، بينما وصفها إدوارد ألبي عام 1967 بأنها "شرف في حالة انحدار". أما الموقف الأكثر تشددا فكان للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي رفض جائزة نوبل عام 1964 والوسام الفرنسي عام 1945، تحاشيا لما اعتبره "فخ السلطة الرمزية".

صنع الله إبراهيم وفضاءات السرد

وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، وورث حب الأدب عن والده، مما شكل شخصيته الإبداعية المبكرة. التحق بدراسة الحقوق، لكن انحرافه نحو العمل السياسي والصحافة قاده ليصبح عضوا في التيار الشيوعي "حدتو"، وهو ما أدى إلى اعتقاله عام 1959 والحكم عليه بالسجن.

إعلان

في السجن، وجد ضالته، واعتبر ذلك المنفى "جامعته" الحقيقية التي اكتسب منها مادة أدبية مستنيرة، وهناك ولدت روايته الأولى "تلك الرائحة". بعد خروجه، عمل في وكالة الأنباء المصرية، ثم الألمانية في برلين الشرقية، وانتقل بعدها إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، قبل أن يعود إلى القاهرة عام 1974 ويتفرغ للكتابة الحرة.

تميزت أعمال إبراهيم بالتوثيق التاريخي الدقيق والتركيز على الأوضاع السياسية في مصر والعالم العربي، بالإضافة إلى سرد جوانب من حياته الشخصية. ألف نحو 16 رواية، من أبرزها "شرف" (التي تحتل المرتبة الثالثة ضمن أفضل مئة رواية عربية)، و"اللجنة"، و"ذات"، و"الجليد"، و"بيروت بيروت"، و"العمامة والقبعة"، و"أمريكانلي"، لتظل أعماله علامة فارقة في الأدب العربي المعاصر.

 الجائزة ساحة احتجاج سياسي

بعد نصف قرن من مواقف سارتر وشو، دخل الأدب العالمي فصلا جديدا من "جوائز بلا فائزين"، حيث أخذت المواقف المناهضة للجوائز بعدا سياسيا أكثر وضوحا، خصوصا في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة.

في الولايات المتحدة، انسحب 9 كتاب من جوائز "القلم" الأميركي عام 2023، وفي عام 2024، ارتفع العدد إلى 29 كاتبا، مما أدى إلى اختفاء الجائزة من الروزنامة، احتجاجا على موقف المؤسسة الذي اعتبروه مطبعا مع إسرائيل.

رفضت الكاتبة الأميركية من أصل هندي، الحائزة على جائزة بوليتزر، جومبا لاهيري، جائزة "إيسامو نوغوتشي" بنيويورك لعام 2024، بسبب فصل موظفين ارتدوا الكوفية تضامنا مع الشعب الفلسطيني.

أعادت الكاتبة من جنوب أفريقيا، زوكيسوا وانر، ميدالية معهد غوته التي فازت بها عام 2020، لأن ألمانيا، حسب وصفها، "تتواطأ في الإبادة" وتصدّر الأسلحة لإسرائيل، وكأنها تقول "احتفظوا بزخارفكم، أنتم على الجانب الخطأ من التاريخ".

"أعتذر عن عدم قبولها"

عربيا، شكل موقف صنع الله إبراهيم عام 2003 حدثا بارزا، حين رفض جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية، احتجاجا على سياسات نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، وصمت الحكومة المصرية إزاء ما يجري في العراق وفلسطين.

في مشهد مهيب، صعد صنع الله إلى المنصة وسط تصفيق حار، ووقف أمام الميكروفون صامتا لدقائق، قبل أن يلقي كلمته التي تحولت إلى بيان تاريخي:

"لست قادرا على مجاراة الدكتور جابر في قدرته على الارتجال. ولهذا فقد سطرت بسرعة كلمة قصيرة أعبر فيها عن مشاعري. وصدقوني إذا قلت إني لم أتوقع أبدا هذا التكريم، كما أني لم أسع يوما للحصول عليه. فهناك من هم أجدر مني به، بعضهم لم يعد بيننا مثل غالب هلسا الأردني، وعبد الحكيم قاسم المصري، ومطيع دماج اليمني، وعبد العزيز مشري السعودي، وهاني الراهب السوري. والبعض الآخر ما زال يمتعنا بإبداعه مثل الطاهر وطار، وإدوارد الخراط، وإبراهيم الكوني، ومحمد البساطي، وسحر خليفة، وبهاء طاهر، ورضوى عاشور، وحنا مينا، وجمال الغيطاني، وأهداف سويف، وإلياس خوري، وإبراهيم أصلان، وجميل عطية، وخيري شلبي، وفؤاد التكرلي، وخيري الذهبي، وكثيرين غيرهم.

إعلان

لقد جرى اختياري من قبل أساتذة أجلاء ورواد للإبداع يمثلون الأمة التي أصبح حاضرها ومستقبلها في مهب الريح، وعلى رأسهم أستاذي محمود أمين العالم الذي زاملته في السجن وتعلمت على يديه وأيدي رفاقه قيم الوطنية الحقة والعدالة والتقدم. وهذا الاختيار يثبت أن العمل الجاد المثابر يجد التقدير المناسب دونما حاجة إلى علاقات عامة أو تنازلات مبدئية أو مداهنة للمؤسسة الرسمية التي حرصت دائما على الابتعاد عنها.

على أن لهذا الاختيار قيمة أخرى هامة، فهو يمثل تقويما لنهج في الإبداع اشتبك دائما مع الهموم الآنية للفرد والوطن والأمة. إنه قدر الكاتب العربي، فليس بوسعه أن يتجاهل ما يجري من حوله، وأن يغض الطرف عن المهانة التي تتعرض لها الأمة من المحيط للخليج، وعن القهر والفساد، وعن العربدة الإسرائيلية والاحتيال الأميركي، والتواطؤ المزري للأنظمة والحكومات العربية في كل ما يحدث".

ثم استطرد صنع الله وسط ذهول الحاضرين ووزير الثقافة آنذاك فاروق حسني:

"في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف، وتنفذ بدقة منهجية واضحة خطة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه. لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان. وعلى بعد خطوات من هنا، يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى، يحتل السفير الأمريكي حيا بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيا.

ولا يراودني شك في أن كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحيطة بوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري الإسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية، ولا على الإملاءات الأمريكية، ولا على العجز الذي يتبدى في سياسة حكومتنا الخارجية، إنما تمتد إلى كل مناحي حياتنا. لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل. تفشى الفساد والنهب. ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة منا الروح. الواقع مرعب. وفي ظل هذا الواقع، لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته.

لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدي. لن أطالبكم بعمل، فأنتم أدرى مني بما يجب عمله. كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها، لأنها صادرة عن حكومة لا تملك في نظري مصداقية منحها. وشكرا".

هكذا، بين من يرفض الجائزة ساخرا، أو يعيدها احتجاجا، أو يقاطعها تضامنا، تبقى الجوائز الأدبية بالنسبة للبعض وسام شرف، وبالنسبة لآخرين عبئا يثقل حرية الإبداع ومسؤولية الكلمة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق