في صباح حار من صيف البصرة (جنوب العراق) استعانت باحثة عراقية بمجموعة من المساعدين الذين حفروا بهدوء فوق قطعتي أرض زراعية في منطقتي أبو الخصيب والدير، للوصول إلى أعماق التربة، ليس بحثا عن كنز بل عن عدو صامت هو "غاز الرادون".
وغاز الرادون، الذي لا لون له ولا رائحة، يتسلل من أعماق الأرض نتيجة تحلل اليورانيوم والراديوم في الصخور والتربة، ولا يشعر به أحد، لكنه إذا تراكم في الهواء يمكن أن يشكل خطرا حقيقيا على الرئتين.
وخلال الدراسة المنشورة بدورية "جورنال أوف رادييشن ريسيرش أند أبلايد ساينسز" جمعت الباحثة رشا أحمد من قسم الفسيولوجي بكلية الطب جامعة النهرين (بالعراق) 18 عينة من منطقتي أبو الخصيب والدير، من السطح وحتى عمق 60 سنتيمترا، ووضعت التربة في عبوات محكمة الإغلاق مع شرائح بلاستيكية خاصة تُسمى "كواشف سي آر-39 " التي تعمل مثل فيلم الكاميرا القديم لكنها لا تلتقط الصور، بل تلتقط "آثار" الجسيمات الصغيرة (جسيمات ألفا) التي يطلقها غاز الرادون.
وتركت الباحثة العينات لمدة 60 يوما حتى تتجمع آثار هذه الجسيمات على الشرائح، ثم قامت بفحصها لمعرفة تركيز الغاز. وكانت النتيجة مقلقة، حيث أظهرت بعض العينات تركيزات وصلت إلى 287 بيكريل لكل متر مكعب، وهو أعلى بكثير من الحد الآمن الذي توصي به منظمة الصحة العالمية.

ما التركيز المسموح به؟
وتوصي المنظمة بألا يتجاوز تركيز غاز الرادون في الهواء داخل المنازل والمباني 100 بيكريل/متر مكعب، وإذا كان من الصعب تحقيق هذا الحد في بعض المناطق، فإن المنظمة تعتبر أن الحد الأقصى الذي لا يجب تجاوزه أبدا هو 300 بيكريل/متر مكعب، لأنه عند هذه المستويات يزداد خطر الإصابة بسرطان الرئة بشكل واضح.
وبالمقارنة مع نتائج الدراسة في البصرة، سجلت بعض العينات معدلات وصلت تقريبا إلى 3 أضعاف الحد الموصى به من قبل المنظمة.
إعلان
وبينما كانت الباحثة تتوقع أن تجد غاز الرادون مختبئا بالطبقات السطحية، كما يحدث عادة، وجدت أن الطبقات الوسطى من التربة هي التي تخزن أكبر كميات من الغاز، وكأنها "قبو" محكم الإغلاق يمنع الرادون من التسرب. وعندما فحصت عينات التربة، فوجئت بأن اليورانيوم (المصدر الأساسي لغاز الرادون) يقترب فيها من أعلى المستويات المسجلة عالميا، وهو ما يفسر وفرة الرادون.

ترجيح مسؤولية الأسمدة الفوسفاتية
لكن السؤال الذي فرض نفسه بعد هذا الاكتشاف: من أين جاء كل هذا اليورانيوم؟ وقد رجحت الباحثة مسؤولية الأسمدة الفوسفاتية التي يشيع استخدامها بالمزارع المحلية، والتي تُعرف باحتوائها بشكل طبيعي على آثار من اليورانيوم. فمع كثرة استخدامها عبر السنين، ربما كانت هي السبب الخفي وراء هذه القيم المرتفعة للرادون المدفون في قلب الأرض.
وخلال العقود الأخيرة، توسع استخدام الأسمدة الفوسفاتية المتضمنة لليورانيوم والغازات الأخرى، حيث كانت الشركة العامة للفوسفات في العراق تقوم باستخراج اليورانيوم من السماد قبل طرحة للتداول، حتى تم تدمير وحدة الاستخراج المرتبطة بها في موقع عكاشات (غرب العراق) عام 1991، وعندما تم استئناف العمل بدأ إنتاج أسمدة ومنتجات بمواصفات جديدة.
وركزت دراسة سابقة للهيئة العراقية لتنظيم المصادر المشعة على أهمية معرفة وتحديد تأثير تدمير وحدة استخراج اليورانيوم على الإنتاج الجديد، وقياس معدلات زيادة تركيز اليورانيوم في هذه المنتجات وتأثير الإشعاع المتوقع على الإنسان والبيئة.
وكشفت الدراسة المنشورة على موقع "نظام المعلومات النووية الدولي التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية"، عن وجود تركيزات مرتفعة من المواد المشعة في الأسمدة الفوسفاتية التي تُنتجها الشركة العامة للفوسفات في العراق، حيث بلغت مستويات "الراديوم-226 " نحو 411 بيكريل لكل كيلوغرام، وهو ما يتجاوز الحدود المرجعية العالمية التي تقارب 370 بيكريل/كيلوغرام.
كما سجلت مستويات "اليورانيوم-238" ارتفاعا ملحوظا وصل إلى 517 بيكريل/كيلوغرام، مما يشير إلى تراكم كبير للمواد المشعة مقارنة بالقيم الطبيعية المعروفة، وكانت مستويات "البوتاسيوم-40" أقل تأثيرا نسبيا بتركيز يبلغ 12.2 بيكريل/كيلوغرام، لكنه يظل جزءا من المكونات المشعة في هذه الأسمدة.
وتدعم هذه النتائج ما ذهبت إليه الدراسة الحديثة في محافظة البصرة من وجود مخاوف من زيادة المخاطر الإشعاعية على المزارعين والبيئة، خاصة مع الاستخدام الطويل الأمد لهذه الأسمدة بالأراضي الزراعية.
وأوصت الدراسة بضرورة إجراء قياسات دورية للرادون بالأراضي الزراعية، وتحسين التهوية، إلى جانب البحث عن حلول للحد من انبعاث الغاز من التربة، بهدف تقليل المخاطر الصحية.

سر الفوسفات
ويدعم يسري أبو شادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية (سابقا) ما ذهبت إليه الدراسة، من احتمالات أن يكون الرادون نتاج تحلل اليورانيوم والثوريوم، وهي مواد موجودة بالفوسفات، ولأن الأخير يستخدم بكثرة في صناعه الأسمدة فإن احتمالات تصاعد غاز الرادون المشع عند استعمال هذه الأسمدة مرتفع للغاية.
إعلان
ويقول للجزيرة نت إنه "حسب تركيز الغاز الرادون ومدي قدرة التربة على تسريب كمياته المتراكمة، تحدد خطورته علي صحه البشر، خاصه عند استنشاقه".
ويضيف أبو شادي توصية أخرى لمواجهة المشكلة (غير واردة بالدراسة) وهي ضرورة مراجعة تركيب السماد الفوسفاتي المستخدم لمعرفة سبب التركيز العالي لليورانيوم، والذي يؤدي تحلله لانبعاث غاز الرادون، كذلك يجب دراسة التربة الأصلية نفسها، فقد تكون محتوية على مستويات عالية من اليورانيوم، والتي "تزيد من حجم المشكلة".
إجراءات وقائية هامة
وعن كيفية مواجهة تلك المشكلة زراعيا، يقول الدكتور محمد الحجري الأستاذ المساعد في مركز بحوث الصحراء (مصر) -في حديثه للجزيرة نت- إن افتقار التربة إلى محتوى كاف من الماء يجعلها ذات مسامية عالية "مما يسمح للرادون بالانتشار بسرعة، لذلك، فإن أحد الحلول المناسبة للحالة العراقية هو الاهتمام بزراعة الأرز".
ويوضح الحجري أن زراعة الأرز تحقق عدة مزايا، منها أنه يزرع في حقول مغمورة بالماء (الري بالغمر) حيث يغطي الماء التربة ويقلل من تهويتها وكمية الهواء المتحركة فيها، مما يحد من حركة غاز الرادون وانبعاثه إلى الجو. كما أن وجود طبقة الماء يحد من تبخر الرطوبة ويساعد في بقاء التربة رطبة لفترات طويلة، مما يقلل من فراغات الهواء في التربة التي تسمح للرادون بالهروب.
ومن الأساليب الأخرى التي قد تساهم في تقليل هذا الخطر، كما يوصي بها الحجري، هي تطبيق "الزراعة الحافظة" التي تعتمد على مجموعة من الممارسات الزراعية بهدف الحفاظ على التربة وتحسين خصوبتها بشكل مستدام.
وتشمل هذه الممارسات تجنب تقليب التربة بشكل عميق ومتكرر كما في الزراعة التقليدية، وبدلاً من ذلك زراعة المحاصيل مباشرة في التربة بدون حرث (الزراعة المباشرة) وترك بقايا المحاصيل السابقة على سطح الأرض بعد الحصاد، مما يحمي التربة من التعرية ويقلل تبخر الرطوبة، بالإضافة إلى استخدام محاصيل التغطية التي تُزرع بين المواسم للحفاظ على التربة وزيادة محتوى الرطوبة فيها.
كما تشمل هذه الممارسات تحسين نظم الري لتقليل فقد المياه والحفاظ على رطوبة التربة، وهو ما يساعد على تقليل انبعاث غاز الرادون.
0 تعليق