في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، تساءل الكاتب سايمون موندي عمّا إذا كانت إسرائيل تواجه خطر التحول إلى دولة منبوذة عالميًا. فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى، تسببت الهجمات الإسرائيلية في غزة باستشهاد أكثر من 62 ألف شخص إلى جانب إصابة نحو 160 ألفا، وذلك وفقًا لمسؤولي الصحة المحليين، بينما أشارت أبحاث نشرتها مجلة "ذا لانسيت" الطبية إلى أن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى بكثير، مع تزايد الوفيات الناجمة عن التجويع وسوء التغذية نتيجة القيود المفروضة منذ أشهر على دخول الغذاء والمساعدات الإنسانية.
وأكدت فايننشال تايمز، أن تجاهل المستثمرين العالميين هذه الكارثة بدا أمرا متهورا، وهو ما يظهر بوضوح في تجربة صندوق الثروة السيادي النرويجي العملاق. فقد تزامنت الحملة العسكرية المكثفة على غزة، المستمرة منذ 22 شهرًا، مع ارتفاع غير مسبوق في أسهم شركة "بيت شيمش إنجينز هولدينغز"، المورد الرئيسي لخدمات صيانة الطائرات التابعة للجيش الإسرائيلي، والتي ازدادت الحاجة إليها خلال الحرب التي شملت قصف 40 ألف هدف جوي في العام الأول وحده، حسب البيانات الحكومية الإسرائيلية.
الأرباح الضخمة لصناديق الاستثمار
ومنذ 5 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي قبل يومين من طوفان الأقصى، ارتفع سعر أسهم "بيت شيمش" بنسبة 560%، ما وفّر أرباحًا ضخمة للمساهمين. ومن هؤلاء، صندوق الثروة النرويجي الذي يبلغ حجمه 1.9 تريليون دولار، والذي اشترى حصة في الشركة في الربع الأخير من سنة 2023 وزاد استثماراته خلال السنة الماضية. وبنهاية يونيو/حزيران الماضي، بلغت حصة الصندوق 2.1% من أسهم الشركة بقيمة 15.2 مليون دولار.

وبحسب فايننشال تايمز، فقد أثار هذا الاستثمار جدلا واسعا في النرويج بعد كشف صحيفة "أفتنبوستن" عنه في تقرير استقصائي بتاريخ 4 أغسطس/آب. رئيس الوزراء يوناس غار ستوره، حذّر من أن شرعية الصندوق، الأكبر في العالم، هي موضع تساؤل، بينما دعا سياسيون معارضون إلى استقالة نيكولاي تانغن، الرئيس التنفيذي لإدارة استثمارات بنك النرويج المشرف على الصندوق.
القوانين الدولية ومعضلة الشرعية
وتشير فايننشال تايمز إلى أن الرسالة الموجهة إلى إدارة استثمارات بنك النرويج وكبار المستثمرين أصبحت واضحة: تجاهل الأسئلة المتعلقة بالتعرض المالي للصراع في غزة لم يعد خيارا حكيما. فقد فرضت مؤسسات استثمارية كبرى في الدول الإسكندنافية وهولندا حظرًا على الاستثمار في الشركات المرتبطة بالنشاط الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة. وقد استند هذا الحظر إلى أساس قانوني، حيث تعتبر النرويج ومعظم أعضاء الأمم المتحدة، كما أكدت محكمة العدل الدولية، أن المستوطنات غير شرعية بموجب القانون الدولي.
إعلان
لكن، ورغم القلق الأوروبي إزاء الحملة الإسرائيلية، امتنعت النرويج ودول أوروبية أخرى عن توجيه اتهامات رسمية بانتهاك القانون الدولي.
هذا الموقف يعقّد محاولات فرض استثناءات استثمارية مرتبطة بالحرب. وفي مايو/أيار الماضي، كتب وزير المالية النرويجي ينس ستولتنبرغ إلى فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، محذرًا من أن "استبعاد شركة على أسس غير صحيحة قد يفتح الباب لدعاوى قضائية".
غير أن ستولتنبرغ ألمح أخيرًا إلى تغيّر النظرة القانونية تجاه الاستثمار في إسرائيل، مؤكّدًا لصحيفة فايننشال تايمز أن الصندوق السيادي "ينسحب من الشركات التي تساهم في انتهاكات الدولة للقانون الدولي".
انسحابات محدودة وتناقضات غربية
وجاء هذا الموقف متزامنًا مع إعلان إدارة استثمارات بنك النرويج، قبيل تقرير حكومي مقرر في 20 أغسطس/آب، عن "تبسيط" استثماراتها في إسرائيل. حيث أعلنت أنها تخلت عن 11 من أصل 61 حصة في شركات إسرائيلية غير مدرجة في مؤشرها القياسي، وأنها ستنهي عقودها كافة مع مديري الأصول الخارجيين في إسرائيل، مؤكدة أنها "لن تستثمر في أي من الشركات الإسرائيلية المدرجة بالمؤشر".

وأضافت فايننشال تايمز أن شركة "بيت شيمش"، المدرجة في مؤشر "فوتسي غلوبال أل كاب" منذ سبتمبر/أيلول 2024، حققت مكاسب قوية دفعتها إلى دخول عدة مؤشرات عالمية، منها مؤشرات "إم إس سي آي". ونتيجة لذلك، أصبحت أسهمها ضمن صناديق تديرها شركات كبرى مثل "بلاك روك"، في حين تملك مؤسسات أميركية مثل "فانغارد" و"ستيت ستريت" حصصًا فيها أيضًا. وعلى النقيض، لم يظهر المستثمرون الأوروبيون حماسا مماثلا، باستثناء استثمارات محدودة مثل "ليجال آند جنرال" البريطانية و"بيكتيت" السويسرية، بقيمة 370 ألف دولار و44 ألف دولار فقط.
وتبرز المؤسسات الأوروبية بوضوح في استثماراتها بشركة "إلبيت سيستمز"، أكبر شركة دفاعية مدرجة في إسرائيل، حيث تشمل القائمة "أموندي" الفرنسية وأذرع إدارة الأصول التابعة لـ"دويتشه بنك" و"إتش إس بي سي". ومع ذلك، يعترف وزير المالية النرويجي بأن استثناء الأسهم "لا يحدث سوى تأثير هامشي على تمويل الشركة"، في وقت يبدو من الصعب تخيل أي مدير أصول أميركي يفرض استثناءً مماثلًا ضمن المناخ السياسي الحالي.
سمعة الصناديق تحت ضغط متزايد
وبحسب فايننشال تايمز، يشكل المستثمرون الأجانب جزءًا محدودًا من قاعدة المساهمين في شركات الدفاع الإسرائيلية، التي ازدادت قوة مالية بفضل ارتفاع الإنفاق العسكري. فقد أقرت إدارة "بيت شيمش" بأنها استفادت ماليًا من حرب غزة، لكنها توسع أنشطتها أيضًا في الأسواق العسكرية والمدنية الأميركية.
ويكشف الجدل في النرويج عن حساسية الرأي العام تجاه مسألة تحقيق الأرباح، حتى وإن كانت محدودة، من الحرب في غزة. وهو ما ينذر بزيادة الضغوط على مديري الأصول مع استمرار ارتفاع عدد الضحايا وتزايد الانتقادات الدولية. هذه التطورات تضعهم أمام خطر ملموس على السمعة وفقدان العملاء، وتجبرهم على إعادة النظر في المؤشرات القياسية التي يعتمدونها، ما يفتح تحديات جديدة أمام مزوّدي الخدمات مثل "إم إس سي آي"، "إس آند بي داو جونز"، ومجموعة بورصة لندن.
إعلان
وتضيف فايننشال تايمز، أن التحقيقات الجارية من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بشأن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب قد تفرض قضايا قانونية جديدة على مديري الصناديق، وهو ما يعد خارج "منطقة الراحة" للمستثمرين المؤسسيين. وكما نقلت المجلة عن مسؤول في صندوق تقاعد بريطاني: "ليس من وظيفتي اللعينة صنع السلام في الشرق الأوسط". ورغم صراحة هذا التصريح، إلا أنه يلخص الموقف التقليدي الذي هيمن طويلًا على تعامل المؤسسات مع الصراع، وهو موقف يبدو أن الاستمرار فيه يزداد صعوبة مع تصاعد الأزمات.
0 تعليق