ينشغل كثير من الناس اليوم بالبيع الإلكتروني بوصفه جزءًا من حياتهم اليومية، غير أن حلول وقت صلاة الجمعة يثير تساؤلات حول مشروعية الاستمرار في هذه المعاملات بعد الأذان الثاني. فقد رفع الشرع الشريف من شأن هذه الشعيرة العظيمة، وأمر بالتهيؤ لها وترك ما قد يُلهي عنها، مما يستدعي بيان الحكم الشرعي لهذا الانشغال، ومواضع الاستثناء التي يمكن مراعاتها في مثل هذه الأحوال.
وأوضح الدكتور/ نظير محمد عياد مفتي الجمهورية، أن البيع الإلكتروني هو مبادلة مال معلوم بسلعٍ أو بمنافعَ معلومة ومشروعة باستخدام الوسائل الإلكترونية الحديثة، وهو وسيلة مستحدثة من وسائل البيع والشراء تُيسر على الناس معاملاتهم وتُوفر عليهم الكثير من الجهد والوقت.
وقد أباح الشرع الشريف البيع والشراء في سائر الأوقات مستثنيًا من ذلك وقت اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة، تعظيمًا لقدرها وحثًّا على المبادرة والسعي إليها؛ لكونها من الصلوات التي إن لم يدركها المسلم في وقتها فاته الأجر العظيم، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9]، ولأجل ذلك حرم الشرع الشريف كل ما من شأنه أن يشغل المكلف بها عن السعي إليها والقيام بها، وخص البيع بالذكر لكونه أكثر ما ينشغل به الإنسان، إذ به قوام حياته ومعاشه.
وتواردت نصوص الفقهاء على أن النهي عن البيع ليس لذاته، وإنما لأمر خارج عنه، وهو إما غلبة الانشغال به عن الصلاة، وإما لكونه سببًا في ترك السعي إليها؛ إذ السعي لصلاة الجمعة لا ينفك الأمر بها عن الأمر به ولا طلبها عن طلبه؛ لأنه لا يتوصل إليها إلا به، وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب.
قد اختلف الفقهاء فيما إذا أمكن الإنسان التعامل بالبيع والشراء حال سعيه لصلاة الجمعة، كأن يبيع ويشتري وهو في الطريق إليها، مما قد لا يخل بمقصود السعي، وهو المتحقق في مسألتنا من البيع الإلكتروني، والذي يكون غالبًا عن طريق الأجهزة الإلكترونية المحمولة بحيث يتمكن الإنسان من إتمام عملية البيع أو الشراء وهو في طريقه إلى الصلاة.
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن المقصود بالنهي عن البيع وقت الجمعة، هو البيع الذي يؤدي إلى ترك السعي إليها، فإذا باع وهو في الطريق ساعيًا إليها، وبحيث لا يؤثر بيعه وشراؤه على إدراكها في وقتها، فلا يحرم عليه ذلك.
والحاصل ومع ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من مشروعية البيع في وقت صلاة الجمعة حال كونه لا يشغل عن السعي إليها كمن باع وهو في طريقه إلى الصلاة، إلا أنه قد توارد من النصوص الشرعية والآثار ما يتقوى به قول المالكية من النهي عن البيع ولو كان ماشيًا إليها تأدبًا مع شعيرة النداء وتقديسًا لوقت الجمعة والمبادرة لها.
وأن من خرج من بيته قاصدًا الصلاة كمن هو في صلاة حتى يصلي ويخرج عنها، فينبغي له تأدبًا أن يلتزم في طريقه إليها ما يلتزمه فيها من وقار وسكينة، وألا ينشغل عنها بغيرها من أمور الدنيا، إذ رتب الشرع الشريف على كل خطوة في الطريق إليها ثوابًا وفضلًا كبيرًا، فالأولى بمن خرج من بيته قاصدًا صلاة الجمعة بعد النداء بها أن ينشغل بالذكر والاستغفار والدعاء لتحصيل أكبر قدر من فضل وقتها مع قِصَرِه وضيقه، لا أن ينشغل بالبيع والشراء المتاحين له في سائر الأوقات والأيام، وقد تقرر أن ما ثبتت نسبته وجبت خصوصيته، وقد ثبت أن ذلك الوقت منسوب لشعيرة الجمعة في حق المخاطب بها، فينبغي أن يختص بها وبأحكامها، وذلك مقتضى ما تواردت عليه النصوص.
فعَنْ أَبِي ثُمَامَةَ قَالَ: "خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ، وَأَنَا أُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِي، فَقَالَ لِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ: لَا تُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ نُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِنَا فِي الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ فِي صَلَاةٍ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ، وَخَرَجْتَ تُرِيدُ الصَّلَاةَ؟ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" و"السنن والآثار".
ولا يخفى على أحد أن الاستغراق في استخدام الوسائل الإلكترونية الحديثة في البيع والشراء -دون ضرورة داعية لذلك- مع ما فيها من سهولة في العرض والتواصل مع الرواج والكثرة في المنتجات- ما يسرق من وقت الإنسان ويشغله بالأمور المادية في وقت العبادة، ويؤثر سلبًا على ما ينبغي أن يستحضره من الخشوع والإنصات حال الاجتماع لصلاة الجمعة.
بناء على ذلك وفي السؤال: فلا يجوز لمن وجب عليه حضور صلاة الجمعة أن ينشغل بالبيع الإلكتروني من وقت النداء بالأذان الثاني لصلاة الجمعة، وعليه أن يُشغل وقته بالذكر والدعاء ثم الاستماع إلى خطبتها، حتى ينال كمال الفضل والثواب، ويُستثنى من ذلك حال الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلتها، والضرورة تقدر بقدرها، فيجوز البيع حينئذ مراعاةً لحال الحاجة أو الضرورة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل
0 تعليق