الإبادة في غزة وتقويض الديمقراطية في عالم رأسمالي - هرم مصر

الكورة السعودية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من المفارقات أن يستمر تدفق الأسلحة إلى إسرائيل رغم الضغط الشعبي والالتزامات القانونية للدول. يجري هذا نتيجة لإستراتيجية متعمدة للتضليل الحكومي، والنزعات المناهضة للديمقراطية المتأصلة في النظام الرأسمالي الذي يُعطي الأولوية لتراكم الربح الخاص على السلطة العامة، وقمع المعارضة لإسرائيل بزعم معاداة السامية، والتأثير المتغلغل لصناعة أسلحة قوية تُشكل السياسات لتحقيق مكاسبها الخاصة.

هذه العوامل مجتمعة تقوض الشفافية والمساءلة والاستجابة اللازمة لسلطة عامة فعالة خاضعة لرقابة شعبية، كما تؤدي إلى تهميش الأصوات المعارضة.

ولكن كيف تعمل هذه الآليات؟

والجواب أنه يبدأ أولا من خلال الخداع الحكومي، والانتهاكات القانونية فيما يتعلق بصادرات الأسلحة.

انخرطت الحكومة الكندية- على سبيل المثال- في خداع منهجي وحيلة اتصالية لتضليل الرأي العام بشأن الدعم العسكري المستمر لإسرائيل.

وعلى الرغم من الادعاءات المتكررة لوزيرة الخارجية السابقة جولي ورئيس الوزراء السابق ترودو، ورئيس الوزراء الحالي مارك كارني بأن كندا قيدت أو أوقفت صادرات الأسلحة، فقد تم الكشف عن تدفق مستمر للسلع العسكرية إلى إسرائيل.

قلَل المسؤولون الكنديون من خطورة البضائع المصدرة، وابتكروا لبعض المعدات العسكرية تصنيفا "غير قاتل"- على الرغم من أنه لا أساس قانونيا له- لتضليل الرأي العام. ويهدف هذا التعتيم إلى جعل كندا تخرق قوانينها بتسليح إسرائيل، حتى مع شحن مواد قاتلة بلا شك، مثل 175 ألف رصاصة عسكرية.

أفادت التقارير بأن الحكومة الكندية قامت بتسريع الموافقات على التصاريح لعدد قياسي من صادرات الأسلحة إلى إسرائيل قبل الالتزام علنا بالتوقف، ثم قامت بهدوء بتقويض هذا الالتزام من خلال الاستثناءات والثغرات.

فعلى سبيل المثال، استمرت شحنات الخراطيش من شركة "جنرال ديناميكس" في كيبيك حتى بعد أن تعهد وزير الخارجية علنا بمنع مثل هذه الصادرات.

إعلان

هذا النمط من التضليل الإعلامي يعني أن الحكومة فشلت في توفير الشفافية والمساءلة، وهما أمران أساسيان للرقابة الشعبية. ولا توجد عملية واضحة للتحقق من كيفية وأماكن استخدام الجيش الإسرائيلي الذخائر كندية الصنع.

هناك جهود حثيثة لإسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل، غالبا من خلال مساواتها بمعاداة السامية. وهذه "المكارثية"- كما هو الحال في فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة- تدفع إلى الخوف والرقابة الذاتية بين المثقفين والسياسيين، مما يؤدي إلى تقويض حرية التعبير التي تعد حجر الزاوية في الديمقراطية.

تنتهك كندا، من خلال الاستمرار في إرسال الأسلحة، قانونها المحلي (قانون تصاريح التصدير والاستيراد، EIPA) والتزاماتها بموجب القانون الدولي (معاهدة تجارة الأسلحة، ATT)، التي تحظر عمليات النقل إذا كان هناك خطر كبير من استخدامها في انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي.

وقد ألزمت محكمة العدل الدولية الحكومات بمنع الجريمة بعد أن وجدت أدلة معقولة تتعلق بالإبادة الجماعية في غزة، وحث خبراء الأمم المتحدة مرارا وتكرارا على فرض حظر كامل على توريد الأسلحة إلى إسرائيل.

إن التكامل العميق بين مصنعي الأسلحة في أميركا الشمالية والمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي يعني أن التقنيات المصنوعة في كندا والولايات المتحدة مدمجة في منصات الأسلحة المستخدمة في الغارات الجوية الإسرائيلية التي تسببت في مجازر مستمرة في غزة.

ويتضمن ذلك المكونات الهيكلية والاختبارية والملاحية الرئيسية لطائرات "إف-35" المقاتلة، التي توصف بأنها "أداة ذبح" تُستخدم ضد السكان المدنيين.

يشكل موقف الحكومة الكندية وغيرها من الحكومات الغربية رفضا صارخا لاحترام القانون الدولي وتطبيقه، مما يقوِض سلطة الأطر القانونية الدولية والنظام القانوني الداخلي ذاته.

الرأسمالية آكلة لحوم البشر

تُعرِف نانسي فريزر- الفيلسوفة النسوية الشهيرة ذات الأصول اليهودية- "الرأسمالية آكلة لحوم البشر" بأنها نظام مجتمعي يسمح لاقتصاد قائم على الربح بالافتراس واستهلاك دعائمه غير الاقتصادية الأساسية، مثل الأسر والمجتمعات والنظم البيئية، وقدرات الدولة والسلطات العامة.

يميل هذا النظام بطبيعته إلى التهام الأسس الاجتماعية والسياسية والبيئية لوجوده، ويؤدي إلى الأزمات من خلال القيام بذلك.

يتم تقويض الديمقراطية وتآكل السلطة العامة من خلال التفاعل المعقد بين التناقضات الأساسية المتأصلة في الرأسمالية، وخاصة في شكلها المالي، وبين الإجراءات المتعمدة للكيانات الخاصة والحكومات.

تعتمد الرأسمالية بشكل أساسي على سلطات ومؤسسات عامة قوية لتؤدي وظائفها. ويشمل ذلك الأطر القانونية التي تصون حقوق الملكية الخاصة، وتنفذ العقود، وتحل النزاعات.

كما تعمل السلطات العامة على قمع الاحتجاجات، والحفاظ على النظام، وإدارة المعارضة، ودعم الأنظمة النقدية، وإدارة الأزمات.

وعلى المستوى الجيوسياسي، تعتمد الرأسمالية على القانون الدولي والترتيبات العابرة للحدود الوطنية التي توسطت فيها القوى المهيمنة عالميا لتسهيل حركة رأس المال والتجارة عبر الحدود.

إعلان

تتميز المجتمعات الرأسمالية بانقسام هيكلي بين المجالين: الاقتصادي والسياسي. تُخصخص السلطة الاقتصادية وتُنقل إلى حد كبير إلى رأس المال، في حين تقع مهمة إدارة الأنظمة غير الاقتصادية على عاتق السلطة العامة، التي تستخدم وسائل سياسية مثل القانون وعنف الدولة.

إن هذا الفصل يحد بطبيعته من نطاق صنع القرار الديمقراطي، حيث يتم حصر جوانب واسعة من الحياة الاجتماعية في "السوق" (أي الشركات الكبرى)، مما يجعلها خارج نطاق السيطرة العامة.

وعلى الرغم من اعتماد رأس المال على السلطة العامة، فإنه يميل بطبيعته إلى تقويضها واستغلالها، مدفوعا بتعطشه للربح. وتُغرى شرائح من الطبقة الرأسمالية دوريا بالتمرد على السلطة العامة، وتشويه سمعتها، والتخطيط لإضعافها.

ويتجلى هذا في الجهود المبذولة للتهرب من الضرائب، وإضعاف اللوائح، وخصخصة السلع العامة مثل التعليم والصحة، ونقل الإنتاج خارج الدولة. وهذا يؤدي إلى تناقض سياسي يهدد فيه رأس المال بتدمير الظروف السياسية الضرورية لبقائه على المدى الطويل.

يخلق النظام الرأسمالي المالي الحالي "حوكمة بلا حكومة"، حين حلت البنوك المركزية والمؤسسات المالية العالمية والشركات العملاقة، بشكل متزايد، محل الحكومات المنتخبة باعتبارها حكاما للاقتصاد العالمي.

وهذه الكيانات، وليس الدول، هي التي تملي الآن العديد من القواعد التي تحكم العلاقات بين العمل ورأس المال، والمواطنين والدول، والمدينين والدائنين.

في النهاية، تصبح هذه الكيانات غير خاضعة للمساءلة العامة، وتعمل نيابة عن المستثمرين والدائنين.

في هذا السياق، تصبح الديون أداة أساسية يستخدمها رأس المال لاستغلال العمالة، وتأديب الدول، ونقل الثروة من المحيط إلى المركز، واستخراج القيمة من المجتمع والطبيعة.

تضغط المؤسسات المالية العالمية على الدول لخفض الإنفاق الاجتماعي وفرض التقشف، مما يؤثر بشكل مباشر على الخدمات العامة والبنية التحتية.

وتصبح الدول أقل استجابة لاحتياجات المواطنين، في حين تعمل المؤسسات المالية باستقلال سياسي، وتكون غير خاضعة للمساءلة أمام الجمهور.

وتُنشئ هياكل الحوكمة العابرة للحدود الوطنية (مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية، واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية…) قواعد قابلة للتنفيذ قسرا، وتُضفي طابعا دستوريا على مفاهيم نيوليبرالية مثل التجارة الحرة والملكية الفكرية، مستبقة بذلك التشريعات الديمقراطية المتعلقة بالعمل والبيئة.

يتمثل التأثير العام في تفريغ السلطة العامة على جميع المستويات. وتُضيق الأجندات السياسية بفعل المطالب الخارجية (الأسواق) والاستمالة الداخلية (استحواذ الشركات، والخصخصة)، وبذلك تسود العقلانية السياسية النيوليبرالية، وهي طريقة محددة في التفكير والحوكمة، حيث يتم إعادة تشكيل الدولة والمجتمع بأكمله وفقا لمنطق السوق والمنافسة الاقتصادية.

أصبحت الأمور التي كانت في السابق ضمن نطاق السلطة الديمقراطية محظورة الآن، وتم تفويضها إلى الأسواق لصالح التمويل ورأس المال المؤسسي. وقد يقوم ممكِنوا رأس المال حتى بإلغاء الانتخابات أو منع الترشيحات التي تتحدى النظام النيوليبرالي السائد.

تأثير صناعة الأسلحة على السياسة

تعمل صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة بشكل نشط على تحويل الربح إلى قوة سياسية، والقوة السياسية إلى ربح. ويؤثر هذا بشكل مباشر على الإنفاق العسكري والسياسة الخارجية، وغالبا بشكل مستقل عن الاحتياجات الفعلية للأمن القومي وأولويات المواطنين.

تستخدم الصناعة مجموعة واسعة من الأدوات للتأثير على الكونغرس والسلطة التنفيذية، بما في ذلك ملايين الدولارات من التبرعات للحملات الانتخابية، وتوظيف عدد كبير من جماعات الضغط (950 في 2024)، وتمويل مراكز الفكر، ووضع موظفين حاليين أو سابقين في اللجان الحكومية التي تصنع السياسات.

إعلان

ويوجد "باب دوار" بين الشركات والحكومة، حيث ينتقل المسؤولون السابقون في البنتاغون إلى شركات رأس المال الاستثماري التي تستثمر في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العسكرية، مما يسمح لهم بالاستفادة بشكل كبير، واستخدام علاقاتهم للترويج لأنظمة الأسلحة الجديدة.

اكتسبت شركات التكنولوجيا العسكرية الجديدة مثل "سبيس إكس" و"بالانتير" و"أندوريل" نفوذا هائلا داخل الإدارات، مع وجود شخصيات رئيسية مدمجة في الإدارة. وهذا الوصول المباشر يُمكنها من الضغط من أجل زيادة ميزانيات البنتاغون بشكل كبير، حتى لأنظمة مشكوك في قيمتها أو غير واقعية، مثل نظام الدفاع الصاروخي "القبة الذهبية".

تضمن هذه الديناميكية أن الأرباح تقود السياسة، حيث تعمل الصناعة بنشاط على زيادة الإنفاق العسكري ومبيعات الأسلحة (مثل تلك التي تُباع إلى أوكرانيا وإسرائيل)، مما يعزز إيراداتها بشكل أكبر.

يمكن أن يتخطى تأثير قطاع الأسلحة، وخاصة شركات التكنولوجيا العسكرية في وادي السيليكون، التدقيق العام والمداولات الديمقراطية، مما يؤدي إلى إنفاق مُهدر، واتخاذ قرارات غير رشيدة.

إن المعركة الزائفة بين مجموعتين من القوى السياسية المتنافسة (الشعبويين والمحافظين) تصرف الانتباه عن ديناميكيات القوة الحقيقية (رأس المال)، الذي يستغل خيوطا مهمة من الصراع، ويوجهها إلى مشاريع تعود بالنفع في نهاية المطاف على رأس المال.

في جوهرها، فإن الإبادة الجماعية في غزة، التي أُتيحت بفضل الدعم العسكري المستمر، توضح بجلاء كيف تؤدي التناقضات البنيوية للرأسمالية المالية إلى تفريغ الحكم الديمقراطي، وتجاهل منهجي للقانون الدولي، وقمع الأصوات المعارضة، وكل ذلك لخدمة الدافع الذي لا يشبع للربح والتراكم من قبل قلة قوية.

ويؤدي هذا إلى حالة يتم فيها استنزاف الحرية الجماعية في تحديد كيفية عيش المجتمع، واستبدالها بقرارات يتخذها المستثمرون من وراء ظهر الجمهور.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق