في زمنٍ صار فيه الموت مشهدًا على "السوشيال"، تحولت الكاميرا من عين ترى الحقيقة إلى عصا تتسول اللقطة، كأن الحزن أصبح وليمةً يقتحمها الغرباء، وكأن دموع الفقد تُقاس بعدد المشاهدات. لم يعد الجناز صمتًا يُواسي القلوب، بل صار سوقًا صاخبًا يتسابق فيه المتاجرون بالعاطفة ليحصدوا بقايا "تريند" فوق أنقاض حرمة الموت.
ما رأيناه في جنازة والد الكابتن محمد الشناوي رحمة الله عليه.. لم يكن صحافة، بل تسول رخيص باسم الصورة. وجه منكسر تُطارده العدسة الباردة للكاميرا، ولقطة تُساق إلى الشاشات بلا رحمة ولا معنى.. لم يعد الأمر صحافة، ولا يُمكن أن نطلق عليه إعلامًا.. ما رأيناه لا علاقة له بالقلم ولا بالكاميرا ولا حتى بالمهنة.
المصور – وإن جاز أن نطلق عليه هذا اللقب – لم يكن يسعى لتوثيق لحظة إنسانية، بل كان يتسول لقطة يبيعها على منصات التواصل كما يتسول "التريند" بعض المتسكعين.
المشهد مؤلم، بل مُهين للمهنة قبل أن يكون مُهينًا للإنسان. ما معنى أن تُطارد كاميرا وجهًا منكسرًا في ساعة حزن؟ ما القيمة التي سيجدها القارئ أو المشاهد حين يرى دمعة رجل يدفن والده؟ إنها ليست صحافة، بل انحدار أخلاقي يرتدي ثوب الإعلام.
ثم جاء المشهد الثاني: أطفال البلدة يركضون خلف محمود كهربا وكأننا أمام لقطة مُقتطعة من فيلم "إبراهيم الأبيض".. ضجيج، صراخ، تدافع.. وكأن الموت صار مسرحًا، والمآتم تحول إلى "مهرجان" بلا ضوابط ولا احترام.
سمعت أكثر من مرة عن قرارات بمنع تصوير الجنازات، وقرأنا تصريحات عن ضرورة حفظ حرمة الموت، لكن لا حياة لمن تُنادي.. كل مرة يتكرر المشهد بذات الفوضى والابتذال، وكأننا ندور في دائرة مغلقة عنوانها: "لا احترام، لا وازع، لا قانون".
من هنا، أرفع صوتي – ومعي كل صوت عاقل – مُطالبًا وزارة الداخلية، التي أبهرتنا خلال الفترة الأخيرة بسرعة التدخل والحزم في قضايا كثيرة، بأن تُنهي هذه المهزلة إلى الأبد.. فالموت له قدسيته، والحزن له حرمته، والناس لهم خصوصيتهم، ولن يُنقذ الموقف إلا قرار صارم يضع حدًا لشحاتين "التريند" على أبواب المقابر.
أوقفوا هذه المهازل.. أوقفوا شحاتين التريند عند أبواب المقابر.. فحرمة الموت أكبر من رخص لقطة، وأقدس من سباق على "مشاهدة" أو "لايك".
الموت ليس محتوى.. الجنازة ليست "تريندًا".. والوجع الإنساني ليس مادة للبيع.. استقيموا يرحمكم الله.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
0 تعليق