20 أغسطس 2025, 11:21 صباحاً
الحياة اليوم تسير بسرعة لم نعهدها من قبل. كل شيء يتلاحق بلا توقف، وكأننا نعيش في سباق لا نهاية له. نبحث عن لحظة صمت قصيرة، فنجد أن الرسائل والإشعارات تقتحمها لتدفعنا إلى مهمة جديدة أو التزام آخر. حتى اللحظات التي كانت تمنحنا فسحةً للتنفس اختفت، لم يعد هناك انتظار هادئ، ولا طريق صامت بين بيتٍ وعمل، ولا وقتٌ فارغ نفكر فيه بلا إزعاج.
هذا الإيقاع المتلاحق لم يعد مجرد انطباع شخصي، بل أصبح موضوعًا لدراسات وكتابات معاصرة عن "مجتمع الإرهاق"، والتي تشير إلى أن غياب ما يمكن تسميته بـ"الوقت ما بين الأشياء" يضع الإنسان في حالة من النشاط المفرط المستمر. الدماغ في طبيعته يحتاج إلى فواصل انتقالية قصيرة ليستوعب ما مضى ويتهيأ لما هو قادم. وحين تغيب هذه الفواصل، نصبح أكثر عرضة للقلق، ضعف التركيز، والإرهاق النفسي.
ولأن هذه الفواصل تكاد تختفي، نجد انعكاس ذلك بوضوح في تفاصيل حياتنا اليومية. حتى فنجان القهوة لم يعد يُشرب بهدوء، بل صار يصاحبه هاتف ممتلئ بالإشعارات. الاجتماعات تتلاحق بلا استراحة تسمح بترتيب الأفكار. الواجبات الاجتماعية تُؤدى أحياناً كالتزام ثقيل أكثر من كونها مساحة للوصل. وحتى السفر، الذي كان في الماضي فسحة للهدوء والاكتشاف، تحوّل إلى سلسلة من ترتيبات وحجوزات تستنزفنا قبل أن تبدأ الرحلة. كل ما كان ثانوياً وخفيفاً صار إجبارياً يملأ المساحات التي كنا بحاجة إليها لنستعيد توازننا.
ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن التسارع ليس دومًا سلبياً. فهناك مجالات تحتاج إلى هذا الإيقاع السريع، كالاستجابة الطبية في حالات الطوارئ، أو إنجاز بعض الأعمال التي يتطلبها الموقف بسرعة ودقة. التسارع أحياناً ضرورة، لكنه يصبح مرهِقاً حين يبتلع كل تفاصيل حياتنا، ويزحف حتى على اللحظات التي يفترض أن تكون لنا، لا علينا.
ولم يقتصر هذا الأثر على الكبار، بل امتد إلى الأطفال والمراهقين. فطلاب المدارس لم يعودوا ينقطعون عن الدراسة بانتهاء اليوم الدراسي، وصحيح أن من الطبيعي أن يكون هناك وقت قصير مخصص لحل الواجبات أو أداء بعض الأنشطة البسيطة، لكن ما يحدث اليوم هو أن هذه المهام تمتد إلى ساعات المساء بلا إدارة واضحة للوقت. فيضيع وقت الراحة الذي كان يفترض أن يسبق النوم، ويتراجع معه النوم المبكر الذي تحتاجه هذه الفئة العمرية. وفي المقابل، يقضي كثير من الأبناء وقتهم بين الأجهزة الإلكترونية والألعاب، بينما يتحمل الأهل عبء الأنشطة والأعمال وحدهم. ومع مرور الوقت، يفقد الطفل أو المراهق شعوره بقيمة المشاركة والعمل، لتغدو المسؤولية أمراً مؤجلاً أو مفروضاً على غيره.
وإذا وسعنا الدائرة أكثر، سنجد أن هذا الإيقاع المتسارع صار يفرض نفسه على مختلف الفئات العمرية، وحتى على أنماط العمل عند الكبار. فكثيرون اليوم يعملون في أكثر من وظيفة: واحدة تخدم دراستهم أو تخصصهم، وأخرى تسد متطلبات الحياة أو تحقق شغفاً إضافيًاً. هذا التسارع قد يكون ضرورة وليس خياراً. لسنا مطالبين بإبطاء الزمن أو إلغاء مسؤولياتنا، لكننا بحاجة إلى قليل من الوعي بكيفية العيش وسط هذا الإيقاع. لحظات قصيرة من التوقف تكفي لتعيد إلينا الإحساس بالمعنى، وتمنحنا استمرارية لا يصنعها العمل المتواصل وحده.
وفي العلاج النفسي يُستخدم مفهوم "اليقظة الذهنية"، وهي ببساطة أن نحضر بكامل وعينا في اللحظة التي نعيشها. هذه الممارسة لا تعني تأملات معقدة، بل قد تكون مجرد انتباه واعٍ لفنجان قهوة يُشرب بهدوء، أو لخطوات تُقطع في طريق العمل دون تشتيت. إدخال هذه الممارسة البسيطة في يومنا يساعدنا على استعادة تلك الفواصل التي نفتقدها، ويمنح عقولنا فرصة للراحة وإعادة التوازن.
الحقيقة أننا لم نعد بحاجة إلى المزيد من الإنجاز أو الحركة، بل إلى أن نتعلم كيف نتوقف. أن نعيد خلق الفواصل الزمنية بأنفسنا: لحظة صمت قبل الدخول إلى اجتماع، دقيقة تأمل قبل الرد على رسالة، أو فسحة طريق نتركها للهدوء بدل أن نملأها بانشغال جديد. ففي هذه اللحظات الصغيرة يتجدد وعينا، ويعود الزمن إيقاعاً نستطيع أن نعيشه، لا مجرد تدفق سريع يبتلعنا.
0 تعليق