جاء موسم أرباح الربع الثاني في وول ستريت في ظل بيئة مشحونة بالرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، ما جعل من قراءة الأرباح اختباراً مزدوجاً بين صلابة الشركات وتداعيات السياسات التجارية.
ورغم قوة الأداء، إلا أن محللين يرون أن تلك المرونة التي أبدتها الشركات في نتائج أعمالها لا تعكس بالضرورة متانة مستدامة في الاقتصاد، بل ترتبط أحياناً باستراتيجيات تكيفية أو بدفعات استثنائية من المستهلكين وطفرة قطاع التكنولوجيا.
تحت عنوان " الدروس المستفادة من موسم الأرباح المتفائل في الولايات المتحدة"، تشير صحيفة فايننشال تايمز في تقرير لها إلى أن نتائج الشركات في وول ستريت عن الربع الثاني من العام الجاري 2025 "تمثل مقياساً غير موثوق به لقدرة الولايات المتحدة على تحمل التعريفات الجمركية".
ومن النقاط الأساسية التي يشير إليها التقرير في تبريره لأسباب النتائج القوية:
أولًا: تُمثل الصناعات المُعرّضة مباشرةً للرسوم الجمركية أقل من 17 بالمئة من أرباح مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وفقًا لتقديرات دويتشه بنك..مع ذلك، تُظهر تقارير الربع الثاني أن العديد من المؤسسات المُتأثرة نجحت في حماية هوامش ربحها من خلال تبني استراتيجيات تخفيفية مُتعددة؛ تتراوح بين خفض التكاليف وزيادة المخزونات ورفع الأسعار والبحث عن موردين بديلين. ثانياً: عززت الشركات المهيمنة من وادي السيليكون في وول ستريت الربحية والطلب الإجماليين في الربع الثاني. وحقق قطاع تكنولوجيا المعلومات، الذي يمثل حوالي ثلث القيمة السوقية لمؤشر ستاندرد آند بورز 500، نمواً سنوياً في الأرباح تجاوز 20 بالمئة. ويعود ذلك إلى نشاط الذكاء الاصطناعي، الذي لا يزال، حتى الآن، محميًا في معظمه من رسوم ترامب الجمركية.لكن التقرير ينبه في الوقت نفسه إلى الضغوط التي تتجلى في قطاعات الاقتصاد الأميركي. فقد كان نمو الأرباح السنوية المعلن عنه في قطاعات المواد والصناعات الاستهلاكية بطيئاً (..) كما تضررت الشركات الصغيرة خارج مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
وعلى عكس مزاعم البيت الأبيض، يواجه المستوردون بوضوح تكاليف أعلى؛ ففي يوليو بلغت عائدات الرسوم الجمركية الأميركية 28 مليار دولار، وهو رقم قياسي.
وقد يمتد تأثير الرسوم الجمركية ليتجاوز القطاعات المتضررة مباشرةً. فمع نفاد المخزونات الاحتياطية، ستضطر الشركات إلى تحميل الموردين والعملاء المزيد من التكاليف.
تأثير الإجراءات الاستباقية
من جانبه، يقول المدير التنفيذي لشركة V I Markets أحمد معطي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
"الشركات الأميركية أظهرت نتائج جيدة مؤخراً، وبرغم أن غالبية المحللين يرون أن السبب يعود إلى مرونة هذه الشركات وقوة الاقتصاد، إلا أنني أختلف قليلًا في وجهة نظري". "السبب الأساسي وراء هذه النتائج هو زيادة المبيعات في الفترة الأخيرة، نتيجة إقبال المستهلكين الأميركيين على الشراء بكثافة خوفًا من ارتفاع الأسعار مستقبلاً مع استمرار الرسوم الجمركية". "المستهلك أدرك أن هذه الرسوم، مثل الرسوم المفروضة على بعض المعادن النادرة المستوردة من الصين، ستنعكس مباشرة على تكلفة المنتجات النهائية مثل أشباه الموصلات التي تحتاجها شركات كبرى مثل إنفيديا على سبيل المثال.. وبالتالي فضّل أن يشتري الآن قبل أن ترتفع الأسعار أكثر".ويضيف: هذا يعني أن ارتفاع نتائج الشركات لا يعكس قوة حقيقية في الاقتصاد أو في أداء الشركات بقدر ما يعكس مخاوف المستهلك من التضخم وتمرير أعباء الرسوم الجمركية عليه مباشرة.
في المقابل، لا يمكن تجاهل أن سياسات الرئيس ترامب لعبت دوراً في دعم الصناعة المحلية، سواء عبر فرض الرسوم لحماية المنتج الأميركي أو عبر الضغط على بعض الدول لشراء منتجات أميركية، بحسب معطي الذي يضيف: "هذه السياسات منحت الشركات شعوراً بالثقة والتوسع".
ويعتقد بأن هذه الحالة لن تستمر طويلاً؛ فإذا استمرت الرسوم الجمركية عند مستوياتها المرتفعة، سيؤدي ذلك إلى زيادة التضخم مرة أخرى، ومع الوقت لن يستطيع المستهلك الأميركي تحمل المزيد من الأعباء، ما قد يعيدنا إلى حلقة سلبية من تراجع الاستهلاك وانكماش النمو."
موسم أرباح قوي
ويقول المحلل لدى غولدمان ساكس، ديفيد كوستين، في مذكرة للمستثمرين في 15 أغسطس، إن الشركات المدرجة في المؤشر القياسي ستاندرد آند بورز 500 أظهرت هوامش ربح أكثر مرونة مما توقعه الكثيرون، وبدعم إلى حد كبير من إضعاف الدولار الأميركي بشكل مطرد هذا العام، الأمر الذي أسهم في دفع نمو المبيعات في الخارج.
وقال كوستين "واصلت الشركات إظهار قدرتها على الحفاظ على هوامشها من خلال التفاوض مع الموردين، وتعديل سلاسل التوريد، وتمرير الأسعار إلى المستهلكين، وخفض التكاليف الأخرى"، وفق ما ورد بالمذكرة التي سلط "بيزنس إنسايدر" الضوء عليها.
ويضيف: خلال موسم الأرباح الحالي ، رفعت 58 بالمئة من الشركات توقعاتها السنوية لعام 2025، أي ضعف ما كانت عليه في الربع الأول. وارتفعت أرباح مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الإجمالية بنسبة 11 بالمئة على أساس سنوي، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف التوقعات المتفق عليها والبالغة 4 بالمئة، وتجاوزت 84 بالمئة من الشركات تقديرات وول ستريت.
ويستطرد كوستين: "مع اقتراب موسم أرباح الربع الثاني من عام 2025 من نهايته، فقد تميز الربع بواحدة من أعلى وتيرة لتجاوز الأرباح على الإطلاق".
مرونة عالية
من جانبه، يقول رئيس قسم الأسواق المالية في شركة FXPro، ميشال صليبي لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" ،إن الشركات الأميركية أظهرت قدرة ملحوظة على التكيّف مع تداعيات الرسوم الجمركية، وذلك بفضل عدة عوامل ساعدتها في التخفيف من الأثر المباشر لهذه الإجراءات حتى الآن.
ويوضح أن تأثير الرسوم بقي محصوراً في قطاعات محدودة مثل صناعة السيارات والألومنيوم، وهي قطاعات لا تمثل سوى نحو 17 بالمئة من أرباح شركات مؤشر S&P500، في حين بقيت القطاعات الكبرى مثل التكنولوجيا والتمويل بمعزل عن هذه الصدمة. ويضيف أن قطاع التكنولوجيا تحديدًا، وخصوصاً ما يُعرف بـ"العظماء السبع" (Magnificent 7)، حقق في معظمه أداءً استثنائياً بدعم من الطلب المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما عزز أرباح شركات مثل مايكروسوفت وميتا.
ويشير صليبي إلى أن نجاح استراتيجيات التكيّف لعب دوراً محورياً في مواجهة هذه الرسوم، سواء عبر تنويع سلاسل الإمداد (..) أو عبر إعادة التصنيع محلياً (..).
كما يلفت إلى أن بعض الشركات اعتمدت على نقل جزء من كلفة الرسوم إلى المستهلكين تدريجيًا من خلال رفع الأسعار. وإضافة إلى ذلك، أسهم ضعف الدولار الأميركي في تعزيز القدرة التنافسية للصادرات الأميركية ودعم المبيعات الخارجية، ما خفف جزئياً من الأثر السلبي للرسوم.
ويؤكد صليبي أن هذه التطورات دفعت الشركات الأميركية إلى تحسين إدارة التكاليف والعمليات، عبر رفع كفاءة المخزون وضبط النفقات، الأمر الذي ساعدها على تجاوز جزء كبير من عبء الرسوم الجمركية. لكنه يشدد في الوقت نفسه على أن استمرار التصعيد التجاري قد يُحدث زعزعة مستقبلية في أرباح بعض القطاعات، حتى وإن كانت الحصانة النسبية واضحة في الفترة الحالية.
0 تعليق