مع الارتفاع المتزايد بدرجات الحرارة في أنحاء العالم إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة للاحتباس الحراري الناجم عن تغيّر المناخ، يتسابق العلماء لإيجاد حلول مبتكرة تسهم في تبريد كوكب الأرض والحد من آثار هذه الظاهرة البيئية الخطيرة، حتى وصلوا إلى حد البحث عن طرق محتملة لحجب أشعة الشمس عن مساحة شاسعة من الأرض.
ففي العام الماضي، تصدّر باحثون في جامعة واشنطن الأميركية عناوين الصحف بعدما أمرهم مسؤولو مدينة ألاميدا الساحلية في كاليفورنيا بإلغاء تجربة قالوا آنذاك إنها لاختبار آلة لتوليد السحب، مُشيرين إلى مخاوف صحية وبيئية وعواقب غير مقصودة.
ووفقا لوثائق وسجلات موسعة حصلت عليها صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، اتضح أن التجربة التي أُوقفت في يومها الأول كانت تهدف إلى تمهيد الطريق لمشروع أوسع نطاقا بكثير كان من شأنه أن يغطي مساحة أكبر من بورتوريكو.

كواليس تجربة ألاميدا
تقوم فكرة المشروع على ما يُعرف بـ"تبييض السحب البحرية"، وهي تقنية تعتمد على اللجوء إلى آلة تسحب ماء البحر، وتضخه في الهواء، فيسمح ذلك برش رذاذ ماء مالح في الهواء.
تعمل جزيئات ملح البحر على تحفيز تكوين قطرات ماء صغيرة ولامعة داخل السحب، ومن شأن هذه القطرات أن تجعل السحب أكثر بياضا، وتزيد من سطوعها فوق المحيطات، ومن ثم تعكس كمية أكبر من أشعة الشمس بعيدا عن الأرض.
كان الهدف من تجربة ألاميدا اختبار جهاز جديد لرشّ الملح، نظرا لعدم وجود آلات قادرة على رش جزيئات ملح البحر بشكل موثوق وبالحجم والكمية المناسبين لتغيير خصائص السحب على نطاق واسع.
هذه التجربة تسعى لدراسة كيفية استجابة السحب للجسيمات التي يتم رشها، بالإضافة إلى إمكانية زيادة سطوع السحب البحرية كوسيلة لتقليل تسخين الكوكب، والحد من الاحتباس الحراري، لكنها في الغالب تؤدي إلى تأثيرات إقليمية أكثر من كونها عالمية.
ووفقا لوكالة ناسا، تلعب بعض السحب ذات القمم البيضاء الرقيقة دورا مهما في حماية الأرض من أشعة الشمس، إذ تعكس الجزيئات الدقيقة من الماء أو الجليد داخلها ما بين 30% و60% من الضوء الساقط، وهو ما يمنحها مظهرها الأبيض الساطع، ويسهم بشكل ملحوظ في تبريد المناخ.
وفي هذا السياق، يرى الباحثون أنه يمكن تعزيز هذا التأثير التبريدي عبر زيادة عدد القطرات في السحب، مما قد يسهم في تعزيز قدرتها على عكس مزيد من الضوء ورفع قدرتها على تبريد الأرض.
ووفقا لأستاذ الحوكمة والسياسات البيئية والتغير المناخي بجامعة جورج ميسون، تود لابورت، الذي لم يشارك في المشروع، فإن "هذه التقنية تعود جذورها إلى تسعينيات القرن الماضي، حين طرح العلماء فكرة رش السحب بجزيئات دقيقة من ملح البحر للمساعدة في عكس جزء من أشعة الشمس بعيدا عن سطح الأرض".
ويضيف في تصريحات للجزيرة نت أن "هذا الإجراء يوفّر ظروفا مواتية لزيادة رطوبة الهواء، فيسهم في تشكّل قطرات الماء أو بلورات الجليد داخل السحب".
إعلان
وتحدث هذه الظاهرة بشكل طبيعي عندما تحمل الرياح المحيطية زبد البحر عاليا في الهواء، لكن العلماء يعتقدون أنه يمكن تعزيز هذه العملية لتقليل درجة الحرارة تحت السحب بشكل ملحوظ.
ويقوم بهذه التقنية عدد من الباحثين في أستراليا والمملكة المتحدة، وتختبرها وكالة ناسا أيضا لكنها تثير الجدل، لأنها تغير طريقة عمل السحب وأنظمة الكواكب وفق بعض الباحثين الذين يخشون من أن تتسبب هذه التقنيات في عواقب جديدة غير معروفة على كوكب الأرض.
من السرية إلى العلن
كان من المقرر أن تكون تجربة ألاميدا ضخمة بمشاركة عدد كبير من المانحين، وكان الهدف أن تستمر أشهرا على متن سفينة "يو إس إس هورنت" المتوقفة عن الخدمة في مدينة ألاميدا قبل أن يُوقفها المسؤولون الذين عارضوا المشروع بالكامل فعليا بعد 20 دقيقة فقط، بحجة عدم إبلاغهم مسبقا، وفي الواقع تواصلت التجربة لكن هذه المرة سرا.
قبل وقف المشروع، كان الباحثون بالفعل في محادثات مع جهات مانحة ومستشارين حول تجربة أكبر بكثير، وكان الفريق على اتصال بجهات حكومية، منها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، وتلقَّى بعض التمويل الفدرالي، وكان يأمل الحصول على دعم لوجستي من الطائرات والسفن التابعة للدولة، في حال نجاح الاختبار الأولي.
وتمكن الباحثون سرا ومن دون إخطار السلطات المحلية من توليد السحب بهذه التقنية فوق المحيط في مساحة 3900 ميل مربع، قبالة سواحل أميركا الشمالية أو تشيلي أو جنوب أفريقيا، قبل بدء التجربة الأولية بوقت طويل.
في هذه التجربة التي يمكن ملاحظة تأثيرها من الفضاء، بدا أن الباحثين المشرفين على هذا المشروع تجاهلوا الدروس السابقة حول بناء الدعم المجتمعي للدراسات المتعلقة بتغيير المناخ، وبدلا من ذلك أبقوا خططهم طي الكتمان إلى حد كبير بعيدا عن الجمهور والمسؤولين حتى بدأت التجربة، وتخلّوا عن فكرة الترويج للمشروع أمام وسائل الإعلام لتجنب معارضة هذا المشروع من جديد، والذي في الواقع يقتضي اختبار تقنية من تقنيات هندسة المناخ المثيرة للجدل.
يقول لابورت إن "هذه الإستراتيجية أفضت إلى نتائج غير متوقعة؛ إذ إن تسرب المعلومات عن التجربة الميدانية التي أُجريت بشكل غير معلن أثار حالة من القلق بين السكان المحليين. وقد بلغ الأمر حدّ أن مجلس مدينة ألاميدا صوّت على إيقاف المشروع بعد مضي شهرين فقط من انطلاقه، استجابة للمخاوف المجتمعية المتعلقة بسلامة التجربة وتداعياتها المحتملة".

مخاطر التلاعب بالطقس
تعد التجربة التي يختبرها باحثو جامعة واشنطن واحدة من تقنيات هندسة المناخ التي تثير الجدل، التي تُعرف أيضا باسم إدارة الإشعاع الشمسي أو تعديله، وهي مجموعة من التقنيات الافتراضية التي تهدف إلى تخفيف عواقب الاحتباس الحراري عبر التدخل الصناعي في نظام مناخ الكوكب.
بعبارة أبسط، تعمل هذه التقنيات على عكس جزء من أشعة الشمس إلى الفضاء قبل أن تصل إلى سطح الكوكب لتقليل كمية الحرارة التي تصل إلى الأرض، ومن ثم "تعتيم الشمس"، أي "تخفيف سطوعها" بشكل اصطناعي.
بخلاف "تبييض السحب البحرية" التي تقوم عليها التجربة، يُعد حقن الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير أبرز مثال على هذا النوع من الهندسة، حيث يتم فيه إطلاق جسيمات عاكسة دقيقة، مثل كبريتات الكالسيوم أو أكسيد الألمنيوم، في طبقة الستراتوسفير (باستخدام طائرات أو بالونات)، لتشتيت الضوء، وعكس جزء من أشعة الشمس قبل وصولها إلى الأرض.
استُلهمت هذه الفكرة من تأثير البراكين الكبيرة في تبريد المناخ، مثل ثوران بركان بيناتوبو في الفلبين عام 1991 الذي أطلق كميات ضخمة من الكبريت في الغلاف الجوي، فأدَّى ذلك إلى انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة العالمية.
يُعتبر "حقن الهباء الجوي الستراتوسفيري" المثال الأبرز لأنه يمكن أن يؤثر على مناخ الكوكب بأكمله، كما أنه يبدو من الناحية التقنية قابلا للتنفيذ وبتكلفة معقولة نسبيا.
وتشمل الأمثلة الأخرى ترقق السحب السمحاقية، وهي سحب عالية ورفيعة تتكون من بلورات جليدية في طبقات الجو العليا، وتظهر على شكل خيوط أو خطوط أو كتل صغيرة، وعادة ما تحتجز حرارة أكبر مما تعكسه، مما يؤدي إلى تأثير احتراري صافٍ.
ويتضمن ترقق هذه السحب رش مواد مثل يوديد الفضة في طبقات الجو العليا لزيادة حجم بلورات الجليد فيها، مما يجعلها تسقط من الغلاف الجوي، ويقلل من كثافة السحب وكميتها، وبالتالي فقدان المزيد من الحرارة إلى الفضاء، ولكن هناك العديد من التحديات والشكوك حول فاعلية هذه التقنية وتأثيرها المحتمل.
هناك أيضا مرايا الفضاء، وهي فكرة تقترح نشر مرايا أو هياكل عاكسة في الفضاء، عادة في مدار حول الأرض أو بالقرب من نقطة لاغرانج الأولى بين الأرض والشمس، لتقليل كمية الطاقة الشمسية التي تمتصها الأرض، لكنها فكرة غير مطروحة بجدية في الأبحاث حاليا، ولم تُؤخذ على محمل الجد.
وتنطوي هذه الأساليب على مخاطر كبيرة وعدم يقين بشأن نتائجها، حتى إن قطاعات واسعة من المجتمع العلمي غير مقتنعة بأن تعتيم الشمس هو الحل، مشيرين إلى مخاطر غير معروفة قد تجعل العلاج أسوأ من المرض نفسه.
يشير لابورت إلى أن الهندسة الجيولوجية الشمسية قد تمثل خيارا مؤقتا للتخفيف من حدة الاحترار العالمي، غير أنه يحذر في الوقت نفسه من أن اعتمادها قد يمنح قادة العالم ذريعة لتجاهل الأسباب الحقيقية لأزمة المناخ، وعلى رأسها الاعتماد على الوقود الأحفوري ومصادر التلوث الأخرى التي تطلق غازات الاحتباس الحراري.
ففي رسالة مشتركة، أعربت أكثر من 100 منظمة بيئية غير ربحية ومجموعة ناشطة عن قلقها، معتبرة أن الهندسة الجيولوجية للمحيطات "تمثل إلهاء خطيرا عن الحلول الفعّالة لأزمة المناخ، وتوفر لصناعة الوقود الأحفوري فرصة للهروب من مسؤولياتها، بينما تُعرّض المحيطات والمجتمعات الساحلية لخطر جسيم".

مجرد حلول مؤقتة
يوضح لابورت أن هذه التقنيات لا تعالج السبب الجذري لتغيّر المناخ، المتمثل في انبعاثات الغازات الدفيئة وتراكمها في الغلاف الجوي، بل تقتصر على التعامل مع الأعراض عبر إخفاء آثار الانبعاثات بدلا من وقفها، وهو ما قد يضعف الدافع الحقيقي لخفضها.
ويحذر لابورت من أن هذه التدخلات قد تُحدث تغيرات غير متوقعة في أنماط الطقس والمناخ، وتؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في الأمطار والرياح، مما قد يضر بالزراعة أو موارد المياه في مناطق معينة، كما قد تنعكس سلبا على النظم البيئية البرية والبحرية، من خلال اضطراب مواسم التكاثر أو نقص الغذاء للكائنات".
ويضيف "حتى إذا نجحت في تبريد المناخ، فإن الخطر الأكبر يكمن في ما يُعرف بصدمة الإنهاء، إذ إن التوقف المفاجئ عن هذه العمليات قد يؤدي إلى ارتفاع سريع وحاد في درجات الحرارة، مما يسبب آثارا كارثية".
بالإضافة إلى هذه المخاطر، تبرز صعوبات الحوكمة والسيطرة كأحد التحديات، إذ لا يوجد حاليا نظام عالمي منظم لهذه التقنيات، وذلك قد يفتح الباب أمام دول أو جهات خاصة لاستخدامها بشكل أحادي، وهو ما قد يثير نزاعات دولية.
وفي حين تعتمد بعض التقنيات المقترحة لمعالجة تغير المناخ، مثل حقن الهباء الجوي في الستراتوسفير، على إطلاق مركبات كبريتية أو مواد أخرى عاكسة للضوء في الغلاف الجوي، فإن هذه المواد قد تتفاعل كيميائيا مع مكونات الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى تأثيرات بيئية قد تكون خطرة.
من أبرز هذه التأثيرات، أن الجزيئات الكبريتية أو المواد المشابهة قد تحفز تفاعلات كيميائية تؤدي إلى تسريع تآكل طبقة الأوزون، وتزيد من تسرب الأشعة فوق البنفسجية الضارة إلى سطح الأرض، مما يعرض الكائنات الحية لمخاطر صحية وبيئية كبيرة.
كذلك فإن نزول هذه المواد مع الأمطار قد يؤدي إلى تكون أمطار حمضية، وهو ما يؤثر سلبا على التربة والمياه العذبة، ويُهدد الحياة البرية. كما أن الجزيئات الدقيقة العاكسة مثل الكبريتات تؤثر على جودة الهواء، وقد تسبب مشاكل صحية خطرة على الإنسان، خاصة في الجهاز التنفسي، وتزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والرئة.
إضافة إلى ذلك، فإن إدخال كميات كبيرة من المواد الكيميائية في الغلاف الجوي قد يؤدي إلى تفاعلات غير متوقعة ومعقدة، مما يخلق آثارا جانبية ربما لم تُدرس بشكل كافٍ.
جدل هندسة المناخ
يتزايد الاهتمام بهذا النوع من التدخلات المناخية، لا سيما مع تعثر جهود خفض انبعاثات الوقود الأحفوري، وتعرض جهود معالجة السبب الجذري لتغير المناخ -وهو حرق الوقود الأحفوري- لانتكاسات في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن فكرة التلاعب البشري بالطقس أثارت جدلا واسعا، وانقساما حادا، لتتحول بسرعة إلى قضية شائكة.
ويرى لابورت أن "ما نعرفه حتى الآن عنها لا يزال محدودا، ولا سيما في ما يخص الآثار البيئية والاجتماعية البعيدة المدى، فالمعلومات المتوفرة عن كيفية تأثير هذه التدخلات على النظم البيئية، وديناميات الغلاف الجوي، ودورات المياه، إضافة إلى انعكاساتها المحتملة على المجتمعات البشرية وسبل عيشها، تُعد غير كافية لتكوين صورة شاملة عن المخاطر".
ويشير إلى أن "هذا النقص في المعرفة يعزز من حالة عدم اليقين، ويجعل المضي في تجارب أو تطبيقات عملية لهذه التقنيات خطوة محفوفة بالمخاطر، نظرا لاحتمال ظهور نتائج غير متوقعة قد يصعب التحكم بها أو التراجع عنها".
أما المؤيدون لهذه المقاربات، فيؤكدون -على الرغم من إدراكهم للمخاطر المحتملة وما يكتنفها من عدم يقين- أن حدة الأزمة المناخية وتفاقم آثارها، بما تتضمنه من ارتفاع متسارع في درجات الحرارة وتزايد الكوارث المرتبطة بالمناخ، قد بلغا مستوى يستدعي النظر في تبني تدخلات غير تقليدية.
ويذهب هؤلاء إلى أن خطورة الوضع المناخي الحالي تبرر من وجهة نظرهم التفكير في تطبيق تقنيات مثل هندسة المناخ بكل صورها، حتى إن كانت تنطوي على احتمالات لمخاطر واسعة النطاق قد تكون ذات تبعات غير متوقعة أو يصعب التحكم فيها.
في تلك البيئة المشحونة، تُفسح الطرق التي اتبعها العلماء في تجارب الهندسة المناخية المبكرة، والتي كانت أحيانا سرية، المجال واسعا لردود فعل سياسية ومعارضة شديدة، وتزيد من انعدام الثقة لدى الجمهور، بل حتى تغذي الشائعات والمعلومات المضللة ونظريات المؤامرة التي زادت من صعوبة إجراء التجارب حتى على نطاق صغير، وتعقد القبول العام والدعم للأبحاث.
0 تعليق