نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التقيّة: بين الجذور التاريخية وإمكانات التوظيف في الاجتماع السياسي - هرم مصر, اليوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025 04:39 مساءً
هرم مصر - د. حسان زين الدين*
في ظلّ التحدّيات المتكرّرة التي يعيشها المشرق العربي، يفرض سؤال التقيّة نفسه بوصفه أكثر من مجرّد ممارسة ذات بعد ديني. فهل هي آلية ظرفية ارتبطت بحالات القمع والاضطهاد، أم يمكن قراءتها كأداة سوسيولوجية تعبّر عن أنماط التكيّف الجماعي مع واقع هشّ ومفتوح على احتمالات التفكّك؟ تسعى هذه الإضاءة إلى تتبّع المسار التاريخي والفكري للتقيّة، وإعادة النظر في أبعادها المعاصرة باعتبارها مدخلًا لمقاربة جديدة ـ ممكنة - لمفهوم المواطنة والعقد الاجتماعي.
التقيّة بين القلق الوجودي وآليات الحماية
شهد العالم العربي خلال العقدين الأخيرين صراعات بلغت أحياناً حدود التطهير العرقي، ما هدّد بقاء الجماعات المحلية ودفعها إلى البحث عن آليات للحماية. في هذا السياق برزت التقيّة كممارسة دفاعية، خصوصاً لدى الأقليات. ويكشف ذلك عن غياب عقد اجتماعي جامع، وعن عجز الدولة عن توفير مظلّة حيادية تكفل المساواة بين مواطنيها.
الموروث الديني والفكري للتقيّة
تشترك التقيّة مع التقوى في الجذر اللغوي، وتعني الحفظ. وقد أجازها الفقه الإسلامي في ظروف محددة حفاظاً على النفس والمال والأهل، فغدت وسيلة لتفادي الصدام المباشر في بيئات سياسية ودينية مضطربة.
الباحث اللبناني سامي مكارم
وقد تناول الباحث اللبناني سامي مكارم في دراسة أكاديمية وافية (التقية في الإسلام، 2004) هذا المفهوم، وإسهامه في بقاء الجماعات المذهبية وحفظ خصوصياتها. في المقابل، ميَّزت الدراسات الحديثة بين التقيّة التي تُعدّ وقائية وخالية من قصد الإضرار، وبين النفاق الذي يقوم على الإيهام والخداع. كما أعاد محمد السمّاك مُساءلة هذا المفهوم في مقال له في جريدة النهار (2005) متسائلًا: هل نمارسها جميعاً من دون أن ندري؟ ما يفتح الباب أمام التعامل معها كفضيلة إيمانية.
التقيّة كمرآة لأزمة الاجتماع السياسي
من منظور علم الاجتماع السياسي، يُعدّ استمرار الحاجة إلى التقيّة مؤشراً على قصور النظم السياسية عن تحقيق مساواة شاملة. فهي تتحول من ممارسة ظرفية إلى استراتيجية دائمة للبقاء. ويمكن التمييز هنا بين:
• التقيّة الدينية: وسيلة لحماية الهوية الإيمانية من الاندثار.
• التقيّة السياسية: انعكاس لعجز الدولة عن أداء دورها كضامن محايد للتعددية.
وفي هذا السياق، يُعَوَّل على مبادرة القابضين على السلطة إلى عدم الركون إلى قوة الشرعية فحسب، بل تحويلها إلى أداة للرشد والحكمة، عبر تبنّي ما يُمكن تسميته "تقية الأقوياء"، أي مبادرة الأكثريات إلى حفظ حق الأقليات في التمايز، وهو طرح لا يتعارض البتّة مع ركيزتي الرحمة والمحبّة في الإسلام والمسيحية.
العقد الاجتماعي وإمكانات التجاوز
إن طرح مفهوم “تقيّة الأقوياء” يُبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في شروط العقد الاجتماعي. غير أن الحلول المستدامة لا تقوم على النيّات الطيبة أو التسويات الظرفية، بل على بناء قواعد دستورية واضحة وآليات حقوقية ضامنة. وفي هذا الإطار، يمكن التعامل مع الدين والمذهب بوصفهما خيارات ثقافية وفكرية في الفضاء العام، بعيداً عن استغلالهما كمحدّدات سياسية في الصراع على السلطة.
بين الاتجاهات المحافظة وحدود التوسيع المفاهيمي
قد تُبدي بعض المقاربات المحافظة اعتراضاً على توسيع مفهوم التقيّة إلى ما يتجاوز ظروفها التاريخية، معتبرة أنها استثناء ظرفي لا يصلح تحويله إلى قاعدة سياسية, ومع ذلك يبقى النقاش حولها ضرورياً من الناحية الفكرية، لأنه يكشف عمق مأزق الاجتماع السياسي المشرقي، ويفتح المجال لصيغ مبتكرة للعيش المشترك، بما يمنح مجتمعات المنطقة فرصة حقيقية لتجاوز مشاريع التفتيت والانقسام.
* دكتوراه في التاريخ الوسيط، باحث وروائي
- المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
0 تعليق